كان يا ما كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، ملكٌ أشرٌ متملكٌ وفاجرٌ يتمتع بجبروتٍ وظلم جاهرٌ يحكم ولايته بأرض فلسطين، متعالٍ بين شعبه ومتبجّح في عرشه، لا يُعجبه العجيب ولا يمرُّ من وديانه ولا غريب ... أخرقٌ في حُكمه وشحيحٌ في عطائه وكريه في معاملاته وسفيهٌ في خصاله، كان حكمه يتّسم بالإجحاف والتّعسف كما لا يخلو من التهكّم والسخرية في تحقيق العدالة بين أبناء شعبه الطّيب، لدرجة أنّ أبناء رعيته ووزرائه لا يكفّون من الضحك والهُزْء منه في قصره:
- ما خطبك يا هذا؟
- سامحني يا مولاي، لم أستطع أن أدفع الضرائب لسيادتكم لهذا الحول؟
- ولماذا لم تدفع أيها الأصلع؟
- أحوالي يا مولاي عسيرة والذئاب التهمت كلّ أغنامي التي في الحضيرة وأصبحت حياتي شقاءٌ ومريرة حتى طعامي لم يبقى لي لا زيتون ولا حتى شطيرة
- حراس! اقطعوا رأسه
اقترب المستشار من الملك وهمس في أذنه بصوت خافت:
- سيدي لا يمكننا أن نقطع رأسه!
- ويحك! ولماذا لا يمكننا؟
- يا مولاي أنظر اليه.. هذا المحكوم لا يملك رقبة أو بالكاد أن تُرى! فكيف يمكن للجلاّد أن يتحكّم بحدّ السّيف ليقطعها
- نعم.. نعم أنت محق، أخبرني أيها المستشار أما من طريقة أخرى نقيم بها القصاص بغير حدّ السيف؟
- لا.. لا يا مولاي تغيير حكم الإعدام يعتبر سابقة خطيرة في مشروعية ولايتنا الفاضلة وتدهورٌ في تحقيق عدالتنا المبجّلة
خمّن الملك بفطنته الغبية وحدّق في المتهم وسأله:
- اسمع أيها المحكوم أنت تُعرقل سير العدالة لذلك لقد وجدتُ الحل.. هيا أخبرني هل لديك قريبٌ أم حبيبٌ من ذوي أهلك أو عشيرتك يملك رقبةً طويلة!
- في الحقيقة يا مولاي لا أظن ذلك.. بلى.. نعم تذكرت الآن ... خالي أجل خالي، رقبته أطول من رقبتي!
- إذاً هنيئاً لك سنقيم حدّ السيف على خالك بدلاً منك.. فما رأيك؟
- شكراً.. شكراً لك يا مولاي ... يحيا العدل! ... يحيا العدل!
انبلجت الشمس في غبطة كعادتها تُبشّر بيوم جديد، نهض الملك مقتضباً منفعلاً مستاء من نومه على صوت جاره "أبا يزيد" وهو يدعو جهراً كالآذان كلّما يفتح باب الدّكان يرفع يديه لربه المنّان يرجوه بالسترة وبالأمان ... " ربي يا وهّاب يا مسبب الأسباب افتح لي الأبواب فأنا عبدك الأوّاب ولك الطاعة ومنك الثواب لا تفقرني ولا تحزنّي منذ اليوم ليوم يقوم الحساب واعمم الخير علينا وخلّصنا من هذا الغراب!" كان كلّ يوم يدعو هذا الدعاء في الصباح وعند رحيله في المساء بعد أن منّ الله عليه بالخير والبركات وفتح دكان بيع المجوهرات قد شيّده أمام قصر الملك ... فأبا يزيد رجلٌ عصامي ودمه حامي أما جذره فأصله سامي، مقتدر الحال وغني بالأموال لديه أرضٌ يسرح فيها الخيال ومن الخير بثمار الحق ذلك هو المآل...
تضايق الملك من أدعيته الصاخبة كلّ يوم أمام قصره فأمر بحراسه أن يحضروا مستشاره الخاص في الحال:
- مولاي أمرك
- أريدكم أن تخلصوني من أبا يزيد فهو في خير عتيد وعن عادته لا يحيد فأنا التعيس بينما هو السّعيد
- وما الجرم يا مولاي في حق أبا يزيد حتى نحكم عليه بالإعدام
- الخسيس ينعتني بالغراب!
- يا مولاي لا يمكننا أن نثبت عليه الخطيئة لأنه سينكر الشتيمة وأن الغراب ليس أنتم ويخرج من القضية بدون حتى غنيمة
- جد لي خطّة أوقّعه في ورطة لا يمكنه أن يخرج منها لا بمحكمة ولا بشُرطة
- حسناً.. حسناً يا مولاي أمرك، دع الأمر لي
لم يتململ المستشار في حيلة تورّط أبا يزيد في مشكلة مع الملك ...فعيّن خادمه " أبا ظرف" واستدعاه في الحال:
- سيدي.. هل طلبتني؟
- اسمع يا أبا ظرف سأعيلك في مهمة وتنفذ ما أطلبه منك بالحرف
- أمرك سيدي
غاب أبا ظرف لأسبوعين وقدم للملك شاكياً باكياً يتنهّد في حسرة وحُرقة أمام رعيته:
- مولاي.. أغثني
- ما خطبك يا أبا ظرف؟
- أيرضيك أن أُتّهم بالسرقة؟
- عجباً! لا لا يرضيني، فشهرتك وصيتك الحميد معروف بين الناس فمن الذي اتهمك بالسرقة؟ فويلٌ لكلّ همّاز مشّاءٍ بنميم، أخبرني عنه وسأعدمه في الحال
- أبا يزيد ... لقد طلبت منه أن أعمل لخدمته في الأرض التي يملكها كفلاح أزرع وأشذب الأعشاب والأشجار، أهتم بالسّقي والرّي، فوافق على الفور ومنحني أجرٌ لا بأس به وبعدها اتهمني بسرقة الفواكه وبيعها بسوق الخضار بدون علمه.. هذا ظلم.. ظلم...يا مولاي
- لا تقلق... سنرسل باستدعائه في الحال ونسمع ما لديه
مرّت ساعة وحضر أبا يزيد في رصانةٍ ووقار:
- السلام عليكم
- وعليكم السلام، اسمع يا أبا يزيد لقد شكي لي العامل الذي يعمل عندك أبا ظرف باتهامك له بالسرقة وبطشك بظلمك عليه بدون وجه حق فما رأيك فيما قاله؟ واعلم جيداً أيها الزّاهد أنّ في حالة ثبتت عليك الإدانة بظلم هذا المسكين وهتك عرضه... فسيكون الإعدام مصيرك
- يا مولاي.. هل أختصر أم أفيض؟
- بل اختصر في ذكر ما يفيد
- لقد سرقني واستغفلني وباع نعمي في الأسواق بدون علمي
- وما أدراك أنه سرقك.. هل لديك شهود؟
- لا ليس لديّ شهود، لكن الأحداث والوقائع لا تخفي على ذي بصيرة وعقلٍ لامع
- هاتها ولا تخفي عني أو تنزع منها أمرٌ واقع
- يا مولاي هل من لصٍّ بريء من جرمه يلهث لحاكمه من قبل حتى أن يشتكي به صاحب المسروق منه؟؟
- ماذا تقصد لم أفهم؟
- ما أقصده يا مولاي، عندما سأل الكلب الغزال: لماذا تسبقينني دوماً، فأجابته بفخرٍ: لأني أركض لنفسي لكن أنت تركض لغيرك وتدّعي النزاهة والوفاء فإن لم تستطع أن تكون غزالاً للحق فلا تكن كلباً للباطل!
انتفض أبا الظرف من مكانه وصرخ قائلاً:
- أقسم يا!
قاطعه أبا يزيد في حكمةٍ ودهاء:
- أنت لا تقسم!! أنت المدّعي، والقاعدة تقول.. البيّنة على من ادعىّ واليمين على من أن أنكر!
فما رأي مولاي؟؟
ولم ولن تنطلي الدّسيسة!...