تقديم و إهداء :
قصة قصيرة أهديها إلي استاذي الفاضل مدرس أول اللغة العربية بالمرحلة الثانوية الاستاذ /زكريا اسماعيل حمادة ..بمدرسة هدي شعراوي الثانوية بنات الاسكندرية ..
----
اعلنت احدي المجلات الثقافية عن مسابقة لنشر اغرب إهداء كتبه مؤلف علي كتاب له ..
علي الفور تذكرت هذا الإهداء
" إلي مدرس اللغة العربية الذي ألقي بدفتر التعبير في وجهي قائلا: “ستموت قبل أن تكتب جملة واحدة.”
رغم اني لا اذكر اسم الكاتب ولا اسم الكتاب ، إلا ان هذا الاهداء اعاد الي ذكري قديمة ..
وتذكرت أستاذي الفاضل الذي لا أعرف إن كان لازال علي قيد الحياة، أم رحل عن دنيانا ؟! مدرس اللغة العربية في المدرسة الثانوية ..
حين خط بقلمه ذات يوم علي إحدى كتاباتي، جملة كتب فيها
{جيدة وسيري في طريقك }
كنت لا أزال تلك الصغيرة، حديثة العهد بالكتابة ، اعشق أن اسجل مشاعري علي هيئة كلمات اكتبها بقلم رصاص علي أوراق ملونة واعتبر ان تلك هي اعظم أسراري، وسقطت إحدى أوراقي بين يديه عن طريق الصدفة، من خلال صديقتي التي أرادت أن تدعمني علي طريقتها الخاصة، بأن تجعل أستاذ اللغة العربية يبدي رأيه فيما اكتبه ..
كان استاذي يملك صوتا جهوري، يلقي الرعب بقلبي عن بعد، لازلت أذكر ذلك اليوم، حين استدعاني إلى غرفة المدرسين ، وظننت أنه قد حان أجلي، وأنه لا منجي من هلاكي، فلم يكن من عادته أن يدعو طالبة إلي تلك الغرفة إلا ليعنفها علي ذنب اقترفته، كنت يومها أسير باتجاه الغرفة كمن يساق لغرفه الإعدام، أجهل مصيري وأجهل الذنب الذي من أجله دعاني، أسير نحو هلاكي المحتوم، طرقت الباب فأتاني صوته الجهوري من الداخل، وهو ينطق بكلمة واحدة
“أدخلي”
شعرت أن نهايتي قد اقتربت، فتحت الباب، كان يقف بمواجهة النافذة وظهره إلي الباب، كانت فرصتي لأستجمع أشلائي المبعثرة، أغمضت عيني للحظة، وأخذت نفساً عميقا، لم أجرؤ علي إخراجه، حين وجدته يلتفت نحوي، كدت أفقد قدرتي على التوازن والوقوف، ولكنني تذرعت ببعض من قوة لا أعرف من أين حصلت عليها ؟! أخرجت بعض كلمات بصوت لا يكاد يسمع
“حضرتك طلبتني ”
تمنيت أن يكون ثمة خطأ ما، وأنه ينتظر طالبة غيرى، هكذا نحن حين نقترب من الغرق، نبحث عن تلك القشة؛ لنتمسك بها رغبة في النجاة.
نظرت إليه وكأني آمل في عفو عن شيء، لازلت أجهله ، كدت أذوب رعبا من نظرته التي لم تكن تحمل أي معني؛ ولكنها كافية أن تلقي الرعب في نفس كل من يتلقاها.
أخرج من جيبه ورقة، أشار بها الي كدليل اتهام، كنت أعرفها جيدا.. إنها إحدي أوراقي المبعثرة، كيف وصلت إلي يديه؟! بالطبع سوف يقوم بتعنيفي .
سألني بكلمة واحدة وهو يلوح بها في وجهي
” ورقتك؟!”
ورغم الرعب الذي تملكني لحظتها، إلا أنني كنت أؤمن أن الصدق دوما هو سبيلي للنجاة، أومأت برأسي موافقة، عاد يسألني كمحقق يصر علي أن ينتزع اعترافات من المتهم :
” عندك أوراق تانية زي دي ؟!”
أومأت برأسي بالموافقة .
جلس علي طرف المكتب، ناظرا إلي بتفحص ثم قال بهدوء لم اعهده منه “أنصحك النهاردة لما تروحي تجمعي كل أوراقك دي، وتكتبيها في دفتر، اكتبي واوعي تبطلي كتابة ، أوراقك كدة هتضيع، جايز لما تكبري تاخدك الدنيا، ساعتها طلعي دفترك وافتكري انك كنت بتكتبي ،اللي أتمناه بجد وأنتظره.. إنك تفضلي تكتبي علي طول، أكيد في يوم هتبقي حاجة.”
ثم مد يده بالورقة، وسلمني إياها، وحين نظرت إليها، وجدت جملة كتبت علي طرفها بقلم أحمر..
“جيدة وسيري في طريقك “
نظرت إليه، خيل إلي أنني لمحت ظل ابتسامة ارتسمت علي وجهه، ابتسامة لم أرها في حياتي طوال فترة تواجدي بالمدرسة، شعرت أنها ربما تكون مكافاة قد حظيت بها، وأن ما أكتبه شيئا عظيما، استحق تلك الابتسامة الوقورة، التي على قدر سعادتي بها، على قدر رعبي منها، حيث أنها تلاشت من علي وجهه في لحظة، وحل مكانها نظرته الحادة العابسة، كان كمن أمسك نفسه بجرم عظيم، وهتف بصوته المعتاد: “روحي علي فصلك.”
استدرت وانا لا أكاد أصدق، شعرت بينما أركض في اتجاه فصلي، أن قدمي لا تلمسان الأرض، وأنني أطير بلا أجنحة.
أدركت يومها قوة الكلمة، و ما تستطيع فعله بكيان الإنسان ؛ فهي قد تبنيه أو تهدمه، وان شتان بين معلم وآخر..
قد تخلق الكلمات حين تخرج من فم الإنسان مبدعا ، وقد تقتل إبداعا ..