ما كنتُ أظنُّ أن في التعافي حكمةً تُبدِّل الرواية، ولا أنّ الجرح إذا استوى يُورقُ نُطقًا آخر. كنتُ أرى النسيانَ غايةَ العافية، وأحسبُ أن من لم ينسَ لم يُشفَ، حتى أدركتُ أن التعافي لا يُشبه العمى عن الوجع، بل البصيرةَ به، وأن النور لا يكتمل إلا على عتبة الظلمة التي سبقته.
التعافي — يا صاح — ليس أن تُمحى آثار الوجع، بل أن تمشي فوقها بثباتٍ بعد أن كنتَ تزحف خوفًا، وأن تنظر إلى كسرك فلا ترتعد، لأنك تعلم أنّ العظم لا يشتدُّ إلا إذا انكسر.
حين تعافيتُ، ما عدتُ أُقاضي الغائبين، ولا أستنطق من رحلوا، فقد علمتُ أن العدالة الحقيقية هي أن أُنصف نفسي من نفسي، وأن أُطفئ ناري لا بانتقامٍ، بل بفهمٍ عميقٍ يسكب الرحمة مكان الغضب.
رأيتُ أن من يؤذي، إنما يُخاصم وجعه لا ضحيّته، وأن اليد التي تُبطِش ليست إلّا يدًا تخشى سقوطها، وأن القسوةَ قناعٌ للخوف، وأن الخذلانَ محاولةٌ يائسةٌ للتشبثِ بما لا يُمكنُهم حملُه.
فلما علمتُ هذا، غفرتُ، لا لأنهم استحقّوا الغفران، بل لأن قلبي ضاقَ بحمل الكراهية، فأطلقتها كريحٍ في الصحراء، تمضي ولا تعود.
ولم أُعِد بناء الجسور، بل وضعتُ في موضعها مسافاتٍ من ضوء، لا يُعبرها إلا من كان نقيّ النية، صادق الملامح.
لقد عرفتُ أن بعض النفوس تُقيم في الظلمة لأنها ألفتها، وأن النور يؤذي عيونًا لم تُجرَّب الإبصار.
عرفتُ أن الوجع عند بعضهم وطنٌ، وأنهم يُؤذون لا ليؤلموا، بل لئلا يذوبوا في وجعهم وحدهم.
أما أنا، فقد تعلمتُ أن الشفاء لا يكون بطمس الندبة، بل بقبولها كوشمٍ نبيلٍ على جلد التجربة، وأن السكينة لا تُستعار من أحد، بل تُستخرج من رحمِ الصبر، وأن العتمة التي فيَّ لا يُبدّدها إلا ضوءي أنا، لا ضوء سواي.
فما عاد يؤلمني أن أتذكّر، بل أن أُعيدَ ما انتهى. وما عدتُ أُخفي ندبي، فهي شواهدُ نجاتي، وأدلةُ أني مِتُّ يومًا ثم قُمت.








































