الأمر العسير إذا حَلّ، وعقدنا العزم على تقبله، بالتعايش معه؛ مَرّ هينًا، نبيلًا مرور الكرام، ورشفنا منه الحكمة والعبرة، وحفر فينا ذكرى لطيفة تختال في رضاب العمر، وإن لطمنا ضيافته بالضيق، والقنوط، والعبوس؛ مر ثقيلًا، بطيئًا، رتيبًا كعقارب الساعة حين تخنق عنق العمر وهو يتململ على قارعة الانتظار!
ولن يتخلى ذلك الأمر عن دوره المنسوب إليه حتى يأذن له ربه؛ فأكرم حضوره، وامنحه قدره.
منذ سنوات توقفنا عن العمل لمدة شهر كامل؛ وذلك بعد الانتهاء من تجديد طابق العمليات الخاص بنا، وانتظارنا لاستلامه، كنا نذهب للعمل، ولكن لم نقم بفعل شئ إلا الجلوس، وأنا لم أعتد ذلك، لم أستطع تقبل الأمر، شعرت باختناق شديد؛ فقررت وصديقة لي زيارة المرضى بأقسام المشفى، لكن هذا يتم في وقت قصير، فأقدمت على حفظ القرآن وكتابته، فمر الوقت عليَّ كريح الصبا حين تسري في كيان العمر الظامئ، وهجير النهار اليائس.
وهناك لحظات فارقة، تلك التي ترجو وتستجدي فيها الله أن يلبس قلبك لباس الأمن حتى يهيئك لعبور ابتلاء ما؛ ليمكنك من اجتياز ابتلاء أكبر بلا هلع أو جزع؛ فتوفى أجر الصابرين بغير حساب. في بداية هجوم تلك الجائحة ـ كوفيد 19 ـ على العالم أجمع، أخبرتني رئيسة قسم التخدير بالعمليات أنني ضمن الفريق الطبي المتجه للعمل بمشفى العزل في الأسبوع الأول من أيلول، رددت بهدوء يتوارى خلفه زحام من الضجيج:
إن شاء الله.
وحدثت نفسي حائرة:
ماذا أفعل؟
فلست أنا التي تختلق الأعذار وإن وُجِدت، ولا التي تتنصل من المسؤلية والالتزام، ولا التي تقف على عتبات الاستجداء.
جل ما أخشاه ألا أحتمل تلك الظلمات الثلاث!
من الأقنعة والأردية الواقية، فأشعر أنني عندما أود أن أتنفس، أتنفس الاختناق!
كما أنني اعتدت النهوض على بسمة الصغار، والاختباء في حنايا قلوبهم وبين أحضانهم، فكيف أحتمل أن يمر يومي بدونهم؟. ذهبت وكدت أفقد اتزاني، وأوشك ثباتي أن ينهار، لكن سرعان ما تماسكت وتذكرت كلمة أحد الأطباء لي:
"لا تقلقي، أنتِ في جهاد"
وإحداهن وهي تنصحني:
احذري، لا ترهقي نفسك و...
كوني على مسافة آمنة، كوني حذرة، لا ترهقي نفسك و...
بينما أنا شرعت أغرس اليقين في قلبي وأردد:
عليكِ أن تتجردي من كل شئ إلا الإنسانية.
كنت أظن أن الظلمات الثلاث مقتصرة على الأردية والأقنعة الواقية التي تخنقنا طيلة الوقت، لكن بمرور الحزن أيقنت معنى الظلمة، عندما عشت أتنفس رائحة الموت في اليوم آلاف المرات، عندما رأيت معول الألم يهدم ربيع العمر في كل روح بآلاف الطعنات.
وفي النهاية نسيت الخوف، نسيت القلق، ومر الأمر تاركًا خلفه الدرس والعبرة.
أما عن التكنولوجيا، تلك التي نلقمها أرواحنا، حين نطعمها حروفنا، ونأتمنها على بعض منا لتأويه لنا عند حاجتنا إليه؛ فتخذلنا على حين غفلة من الأمان، وتقضي على كل ما استودعناه داخلها من حرف، أو ربما تتوقف فلا تقوم لها قائمة؛ فماذا نفعل؟! ولماذا نضن على الحبر والورق بحروفنا؟!
وما الكتاب إلا روح كاتبه المنثورة في حرف؛ لتسكن وتقر في روح أخرى من روحه، تقاسمه نفس الحِس، والفكر، والهدف والرسالة، وإن كان بينهما بعد المشرقين، وإن لم يلتقيا على أرض أو حرف، لكن ربما تجمعهما الأقدار؛ فيتصلا ويتوحدا في يد قارئ فقيه بالحِس، ولغة الوصل، وفلسفة الخلود، بعد أن يفنى وجودهما وتصعد أرواحهما إلى بارئها؛ فالمرء حين يجتبي كتابًا لا بد أن يدرك ويوقن أنه يأوي بعضًا من روحه، وليست سلعة كاسدة، بخسها قدرها كثرة اللغو، ونداءات العرض، لتباع وتشترى في مزاد الشهرة وصراعات النفس والهوى بثمن بخس!، فالعلاقة بين الكاتب والقارئ صلة روح بروح في حرف؛ فقدروا الصلات وعظموها وأعطوا الروح قدرها.
والآن يجتمع علينا قيظ الأيام، وانقطاع الكهرباء المتقطع؛ فتضيق أنفسنا، ويختنق أولادنا، وتتعطل الكثير من أشيائنا؛ لكن، كم من الأزمات اجتزناها برحمة الله، واليقين، والرضا بأقداره؟، والأمر حين نغلبه بصبرنا وإصرارنا ومواجهتنا؛ ينهزم ويمر وكأن ضيقًا وألمًا لم يكن، وكل شئ في باطنه لطفٍ خفي، ورحمة، وحكمة، وعطاء ليس له نظير، وإن كان ظاهره شقاء أو بلاء، أو عسر أو ألم. فاللهم أرنا الأشياء بعينك أنت، وارزقنا الفراسة، ونور البصيرة والهدى