جميعنا يتكلم في عيد الأم عن حنانها ورقتها وتضحياتها ..، ولكني لم أجد وصفاً أبلغ للأمومة من وصف " الوتد "
مع كامل الإحترام للآباء ودورهم في الأسرة ..، في رأيي أن عماد وقوام الأسرة والإنسان هي الأم ..
من روائع الدراما المصرية والعربية بشكل عام في رأيي .. المسلسل العربي " الوتد "
جميعنا يذكر ذلك المسلسل الذي يحكي يوميات عائلة مصرية قروية بسيطة ..، وكيف أن محور الأحداث يدور من وإلى وحول وتد هذه العائلة وهي الأم قوية الشخصية نافذة البصيرة واسعة الحيلة والنفوذ ..، والتي بوفاتها تتفرق العائلة وتتشرزم ويبحث كل منهم عن صالحه بعيداً عن إخوته ..،
أجادت الفنانة الراحلة العظيمة "هدى سلطان " تجسيد هذه الشخصية ببراعة منقطعة النظير ..، أضفت على مهارة المخرج وإبداع المؤلف رونقاً يجلي المعنى ويزيد عليه ..
لكني رأيت هذه العائلة ووتدها في محيط مقرب مني للغاية ..
"فاطمة تعلبه" .. هي وبلا أي مبالغة .. جدتي لأبي - رحمها الله - :)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
يقولون أن اليتيم هو من يموت أبواه بعدما يتقدم به العمر .. لا العكس ..
لم أكن أعرف صدق هذه العبارة حتى رأيت عيون أعمامي يوم وفاة جدتي ..وأصغرهم في الخمسينات من العمر
بعضهم كان جداً وجده ولكن الضياع بمعناه الحقيقي لم يكن من الممكن أن تجده مجسداً بليغاً إلا بهذا الشكل الذي عبرت عنه ملامح وقسمات وجوههم
كيف انهار الوتد الذي تجمع حوله العشرة إخوة طوال أعمارهم الطويلة ..، سقطت الخيمة التي كانت تظلهم ..ضاعت خارطة الهدى والسبيل فلم يعودوا يعرفوا إلى أين المصير وأي الطرق هو الطريق ؟؟
عمي الأصغر -52 سنة - من له في قلبي مكانة كبرى .. كان أشبه ما يكون بطفل لم يتجاوز الأعوام العشرة راحت عيناه الدامعه تدور في ذعر بين الحاضرين غير مصدق لما يحدث بينما تعاقب عليه الإخوه يحتضنونه ويشدوا على يديه
جدتي .. كانت تجسيداً لشخصية فاطمة تعلبة ..،،
نفس قوة الشخصية .. نفس سعة الحيلة .. نفس الصبر والمثابرة .. حتى أني أشك في كون المؤلف عرف جدتي وعائلتنا قبل كتابة هذا المسلسل ..،
لها من الأبناء 10 منهم 3 فتيات تباين فيهم المستوى العلمي بين حاصلين على دكتوراه وجامعيين ومؤهلات متوسطة ومن لم يتعلم أبداً
وكذلك تشعبت بهم طرق المستقبل والمستوى الإجتماعي بين أثرياء ثراء فاحش ..وطبقة متوسطة .. ومتواضعي الحال
وكذلك تفاوتت الأعمار فمنهم من مات شابا ومن ماتت في الأربعينات ومن عاش ليحمل لها أحفاده ..،،
أبنائها كالأسماك نعم ولكن لا يأكل بعضهم بعضاً أبداً ..، فحكمها نافذ على الكبير قبل الصغير .. وصوتها الواهن مقدس مطاع .. والجميع يأتي تحت أقدامها يقبلها ليطلب الرضا والمشورة ..،
من فراشها الصغير توجه الابناء ليرعى بعضهم مصالح بعض .. وليسأل بعضهم عن بعض ولا يترك أخ أخاه أبداً .. وترص بيديها البنيان ليشد بعضه بعضا فلا يحقد أخ على أخيه ولا يتخلى عنه ولا يظلمه
كانت كإحدى كهنة المعابد الفرعونية .. تعرف كل شيء ..تعرف حتى ما يفكر فيه من تجالسه ثم تصدر حكمها الذي لا يخيب غالباً..!
عيناها تدور في قسماتك .. من العسير أن تكذب أمام هاتان العينان .. فتقر بذنبك الذي تعلم يقينا بأنها تعلمه !
وكيف لا وقد تعاقبت عليها خطوب الدهر وابتلائاته ..، فقد تزوج جدي رحمه الله إمرأة أخرى وتركها ترعى بكثير من الشقاء أطفالها العشرة ..، فلم تقصر وجنت ثمار التعب وكبد العيش بعد أعوام طويلة راحة ورخاء ..
فما كادت الدنيا تبتسم لها حتى نفذ قضاء الله في أحد أبنائها وكان شاباً يافعاً يتأهب للزواج .. فصبرت واحتسبت
بعدها بأعوام رحلت الإبنة الوسطى وزوجها تاركة لها أبنائها فاحتضنت الأم المكلومة يتم الأحفاد وكانت لهم أماً ثانية ..،
وبرغم كل شيء كان بيتها هو القبلة التي يجب أن نشد الرحال إليها كل يوم خميس لنجتمع كلنا حول سريرها ولا نفارقها إلا في ساعات الصباح الأولى ليوم الجمعة
حتى عناوين بطاقاتنا وشهادات ميلادنا جميعاً منسوبة إلى بيتها الذي نعتبره (البيت الكبير )
لا عجب أن اثنان من أعمامي رفضا الزواج فقط حتى لا يتركاها وحيده وارتضيا خدمتها على الاستقرار والاستقلال ببيت وأسرة ..،
أذكر عمي - عضو المركز القومي للبحوث والحاصل على دكتوراه في الهندسة الوراثية من كلية الزراعة - كيف كان يرتدي أسمالاً في البيت ويقف ليعد لها الطعام ثم يجلس أسفل قدميها ليطعمها .. لم يتزوج ..حتى الان ..وارتضا بأمه من الدنيا قسمة ونصيبا
حتى إذا ما توفت الأم جنح الإخوة إلى التشرزم .. فدبت الخلافات بينهم سافر على إثرها من بقي منهم عازباً خارج البلاد .. ومن بقي داخلها انشغل بأولاده عن إخوته
فقط في مناسبة عائلية قريبه جمعتني مع أبناء عمومتي تذكرت جدتي ..
تذكرت أيام طفولتنا في بيتها العامر ..
وكيف كانت وتداً إغتربنا عن بعضنا بعده ..