لا يذكر متى ولا كيف أصبح هنا ..
لكنه سعيد ..
لم يعد مضطراً لحمل ذلك الجسد الثقيل أينما ذهب لم يعد يلهث ولا يشعر بأي تعب ، تحولت خطواته إلى سريان حر وانسيابي
إن كل الأبواب مفتحة أمامه يلج فيها ويخرج منها متى شاء ..
أبواب العقار الذي عاش عمره فيه .. كل الأسر التي احتضنته .. كلهم طيبون .. لم يعرف أبداً كيف يعبر لهم عن شكره وامتنانه عندما كان مثلهم..
ربما يستطيع الآن ..،،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طرقات خافتة على باب الشقة بالطابق الثاني .. شقة صاحب العقار ،،
تفتح الباب فتاة شابة بارعة الحسن رشيقة القد ..
- مساء الخير .. الحج صبحي موجود ؟
تأملت الطارق .. شاب أنيق هو له نظرة حياء تزيد وجهه بهاء ووسامة..
- موجود .. من حضرتك؟
- نبيل برهامي .. شقيق الدكتور مصطفى برهامي جاركم وصاحب الشقة المغلقة بالدور الأول ،،
- مرحباً بك .. تفضل سأخبره حالاً
دخل الشاب إلى غرفة الضيوف .. غرفة لا تنم عن ثراء بالغ ولكنها أنيقة مرتبة نظيفة ..، غريب هذا بالنسبة لشقة ثري صاحب عقارات مثل الحج صبحي
أقبل الحج صبحي عليه وعلى وجهه أمارات الأسى والأسف ..
- مرحباً بك يا بني والبقاء لله .. إن الدكتور مصطفى كان رجلاً من طراز لا يتكرر كثيراً
- الأمر لله يا سيدي .. ولكن كيف عرفت .. لقد جئت أخبركم بمصاب الأسرة
- الصحف يا بني .. إن الحادث للأسف كان مروعاً .. ألم ينجو من أسرته أحد ؟
- لا للأسف .. إن السيارة قد انقلبت بهم جميعاً وقد استلمنا الجثامين وقمنا بدفنها منذ بضعة أسابيع ..
- كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
- ونعم بالله ،، الواقع يا سيدي إن المرحوم مصطفى قبل وفاته ببضعة أيام كان قد أخبر أشقائنا بأنه يريد ترك الشقة التي يملكها بعقاركم وتوفى قبل أن نبلغه بقرارنا حيث أنها إيجار فإني أعرض عليك شرائها منك تمليك لنفسي .. إنني صحفي في الثلاثين من العمر أرغب في تجهيز سكن خاص مستقل بعيداً عن الأسرة ربما ينفعني لاحقاً عندما أقرر الزواج
- نعرف الدكتور مصطفى وعائلته أولاد أصول .. وأنت تعرف أنني أنتقي سكان العمارات التي أملكها إن الجيران سمعة وأنا المسئول ..، مبدئياً موضوع التمليك هذا غير وارد لأسباب تخصني لكن إذا أردتها إيجار فربما أطلب منك بعض الوقت للتفكير والإستشارة وغالباً لن أرفض
- ولماذا التفكير يا سيدي ولمن الإستشارة ؟؟
- أسباب خاصة !
- حسناً .. متى ستعطيني الرد ؟
- يوم الجمعة بعد الصلاة بإذن الله ،،
- فليكن .. على موعد قريب بإذن الله
ينهض الشاب في أدب يتقدمه الحج صبحي .. من طرف خفي يلمح تلك الحسناء التي حاولت أن تلقي عليه نظرة خجلى من وراء ستار .. يكرر السلام ثم يغادر البيت

- ماذا كان يريد يا أبي ؟ تسائلت الحسناء
- الشقة .. يريدها لنفسه !
- وهل ستعطيها له ؟
- لن أقطع في الأمر رداً حتى أستشير أخوكِ !!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
عندما ارتحل إلى هذا العالم كان العقار من أربعة طوابق فقط .. لكنه يعرف هنا ما لم يمكنه أن يعرفه عندما كان مثل الأخرين !
إنه يعرف أن شيئاً جميلاً سيكون في طابق خامس .. لذا أوعز إليهم فقاموا ببنائه
وها هو قد تم واستوى ..
قريباً سيصبح ملكه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
- حمداً لله على سلامتك يا فندم :)
سعل إيهاب بضعف ثم فتح عينيه ببطء .. نظر إلى الممرضة التي ابتسمت بسعادة حقيقية غير مفتعلة وهي تتحسس نبضه
- ما.. ماذا حدث
- الحمد لله الذي كتب العمر والسلامة لك من جديد .. لحظات سأخبر الطبيب
صداع رهيب يكاد رأسه ينفلق على إثره شقين ..
ماذا حدث ؟ كيف أصبح هنا .. إن هناك ذكرى باهته وصوراً تضيء في عقله لوهلة ثم تختفي .. لا يذكر شيئاً ولا يريد أن يذكر ..
الصداع لا يحتمل ..
ترى ماذا حدث .. ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
قبضة باردة تعتصر روحها .. تشعر بها لكنها لا تستطيع رؤيتها .. ولا الإفلات منها
تشعر بأن هناك شيئاً يمتص منها .. لا تعرف ما هو ... لا ليس الدماء ولكنه شيء آخر ربما أهم ،،
لن تستطيع الحديث لن يصدقها أحد ..

ثمة مناطق تجوبها ليلاً كلما أغمضت عيناها .. مناطق مقفرة مفزعة ..
ترى نفسها الآن في مقابر مهدمة تسري بين الشواهد الكئيبة .. تستطيع قراءة كل إسم هنا وتاريخ ميلاده ووفاته
يقترب منها مسوح لا تدري من يرتديه أرجل هو أم امرأة
تركع أمامه في بساطة كأنها تفعل ذلك منذ سنوات طوال
ثم تستلقي على ظهرها أمامها يعفر التراب شعرها وثيابها وتشعر بطعمه يملأ فمها
ينحنى ذلك الذي في المسوح ويدفن رأسه بين نهدي الفتاة ثم ينشب أسنانه .. إنها لا ترى ما يفعله ولكنها سعيدة به ..!
تشعر بكيانها يضمر وبحيوية الشباب ونضرته تتسرب منها .. تذبل كما ورقة شجر خضراء يانعة لتتحول إلى شيء جاف يتحطم أسفل أقدام العابرين
فجأة يثب شيئ ما على ذلك الغريب فينتزعه ويلقيه على بعد بضعة أمتار .. إن الغريب كان امرأة مشعثة الشعر
تنهض لوهلة وقد همت بالاستعداد لهجوم مضاد ثم تقرر أن تولي هاربة ..
تلتفت إسراء في ضعف وإنهاك إلى المهاجم ..
ليس سوى قط .. لكنه قط ضخم في حجم الفهد ولونه
عيناه .. رباه !
إلى هنا تنهض إسراء شاهقة فجأة .. عين القط .. إنها عين آدمية تماماً !
تنصت لبندول الساعة في ظلام الغرفة ..
تنهض ببطء متقدمة وتتقدم إلى المرآه التي تتوسط حجرتها .. وتكشف عن صدرها
برغم ضعف الإضاءة القادمة من الشارع تستطيع أن ترى بوضوح آثار الأنياب بين نهديها !
ترفع عينها لتتأمل وجهها في المرآة ..
إن هناك من يقف خلفها مباشرة .. لم تتبين حدود لجسده لكنها ترى الظل وتشعر بوجوده !
التفتت فجأة فلم تر أحد .. عادت لتنظر في المرآة وانتبهت لأن الانعكاس متأخر قليلاً في عكس صورتها . من جديد يعاودها الإحساس بأن الأخرى في المرآة ليست هي إنما هي كائن آخر
لقد ذهب الظل ..
الغريب أنها ليست خائفة !
لم تعد تشعر بالخوف .. إنها في حالة استسلام لمصيرها وقدرها أياً كان
عادت إلى فراشها دون أي رد فعل آخر نامت وجذبت الغطاء عليها
حانت منها التفاته الى المرآه ..
لن تندهش ولن تصرخ .. ستكتفي بإغماض عينيها كي لاترى انعكاس صورتها ..
صورتها التي ما زالت واقفة أمام المرآة تتأملها وهي تضحك بشراسة .. !

يتبع ،،