كانت علي موعدٍ مع نسماتِ الهواء في شُرفتها بمنتصفِ الليلِ تستلقي علي اعتابِ النافذه بِوجنتيها, سابحةٌ بخيالها مع تلك النغمات التي انتفضت لها نبضات قلبها وأشعلت فتيل الذكريات بجوارحها فتذكرت قصتها في هواهِ.
فهي لمْ تكنْ تعلم منذ ذلك اللقاء أن قَدرها في عينيهِ، وأنَّ ما لاقته من آلآمٍ وأوجاعٍ كان على يديه؛ فلم تتحسبُ لذلك، واندفعت وراء انبهارها ببريق عينيه، اللاتى جذباها نحو أيامٍ غامضة تعيش فيها وحيدةٌ؛ فكانت تنسج من لقاءاتهما أحاديث قلبية لم يبح بها؛ إنما صرحت بها عيناه، وأشارت إليها حركاته، وسكناته؛ فكل ما دار كان ُيوحي بأنَّ هناك شيءٌ لها في قلبه، ويثبِّت جذور الحب في ملامح علاقتهما، بل كان يزهر على جنبات قلبها أغصان من المحبة.
عند كل لقاء لم يتواعد فيه, كانت تقرأ في عينيه كلمات لم يكتبها، وتسمع همساتٍ لم يبح بها، فكلماته ككتابٍ مفتوحٍ على دفة عينيه، تتصفحه بلهفةٍ وشوق.
أما هي، وضعت قلبها بين يديه كتابًا يسطر فيه مايشاء حروفًا عن الحب؛
كانت تجيد قراءة كل ما يخط على دفتي قلبها المفتوح،
فقد كتب الكثير والكثير.. حتى النهاية أختارها كما شاء.
كانت تصنع الأوقات الأثيرية معه ,وتختلق بينهما أحاديث قلبية، وتعيش لحظاتٍ تصنعها بيديها من همساتٍ اكتتبها بنظراته، وتنسج قصة عن غيرتها عليه، وأن ردة فعله كما الواثق من محبته لها،
أو تلك القصة الأثيرية الأخرى التي اختلقتها من نسج خيالها عن غضبها من إهمال موعد لقاءهما, فما كان منه إلا أن قبّل جبينها لتهدأ,
أما عن ذلك الهجر الذى دام شهور لا تعرف عنه شيء، كادت تفقد عقلها كيف استطاع عليه صبرًا, مرت الأيام بل السنين الكثيرة وأصبح هو كاتب قصة حياتها.
حكاياتٍ وحكايات كانت تنسجها وتتخيلها لتروي ظمأ عمرها بلحظات عشقٍ لم تحظ بها،هامت في عالمه وهو لم يعلم عن عالمها شيء
كانت تنتظر اليوم تلو اليوم ليبح بما عقد عليه لسانه وقلبه.
بينما تمر هذة الذكريات امام عينيها توقفت الموسيقي ،كانت أمها؛وقفت فى منتصف الغرفة تبحث عن معطفها ،
سألتها:بنيتى الجميلة اين معطفى ؟!
أجابت على أمها وهى توارى وجهها خارجاً لتخفي دمعها قالت:لا أدرى يا أمى.
قالت أمها:حسناً؛ وظلت تبحث عن المعطف وتلفتت يمينًا ويسارًا فوجدت المعطف على كتف ابنتها ،
فقالت في دهشة:بنيتى !..المعطف على كتفك ولا تشعرى ،ما بِك؟ أَتبكين؟!
فقالت:لا شئ يا أمى ،الهواء طرف عيناى فدمعت.
قالت أمها فى تعجب:حسنٌا ،لا أفهم ما بال الهواء يقصد عيناكى دائما فيبكيها !!!(طأطأت برأسها حزنا علي حال أبنتها)
خرجت أمها ،فأخذت تمسح عيناها من الدمع,وتنهدت أنفاسًا تتحسر فيهاعلي سنوات عمرها التي مضت دون جدوي من مضيها,وكما تقول الحكمة (إن الذي يعود للماضي ويتحسر كالذي يطحن الطحين وهو مطحون أصلا),فكلما تجدد في قلبها حنين ذكرياته فأنها ترحل لعالم أثيري تعود منه صِفرًا الأيدي ولكنها عانت ندوب تلك الذكريات التي شوَّهت ملامح قلبها, مرَّت الأيام وهي تُضمِّد جراحاتها وتخفي ملامح كل ندبة ألمَّت بها ,جُلُّ ما آلمَهَا أنها سنين محبةٍ جوفاءٍ صماءٍ كهيكل ٍلحب ٍعذري الملمحِ.أحسَّت أن وجوده منذ البداية كشمسٍ أشرقت وسطعت في نهارها، وأنه دفئ مشاعرها، وعيناه ملاذ هروبها من عالمٍ تعيشه إلى عالمٍ تنسجه في مخيلتها؛
ولأن الشمس لها أوان للمغيب، تيقنت من مغيب شمسه، وأنها لم تَدُمْ طويلاً،بل سترحل وتَتْرك لها وحشة الفراق وأنين الرحيل،وأن الشمس مهما تجدد إشراقها فسيأتي وقت لرحيلها.
لم تُدرك أنَّها ستظلُ عالقةً في حبٍ بغيرِأمل وأنَّ كل ظنونِها في محبتهِ لها كانت خاطئةً بل ظلت حبيسةَ هذا الحبِ فتوهَّمت بحبه لها وهامت به عشقًا وشَّيدت قصورَا من الهوي فَهَدَمَ كل ذلك بِيَدِ التجاهل واللامبالاة .فصارت حديثًا للناسِ؛ لكنَّه تنصَّل مِنْ هواها لكلِ مَنْ يعرفهما وأنَّها واهمةٌ بحبٍ تعيشه بمفردها ولا يعرف عنه شئ ولم يَكْتَفْ بذلك بل ذَبَحَهَا بِسكينٍ باردٍ لمَّا صارحها بعدم حبة لها, فما كان منها إلاَّ أنْ بكت عيناها على كلِّ لحظةِ وَهْمٍ أضاعت قلبها، وأصرَّت على حبٍ واهٍ دون كللٍ ولامللٍ، على أملٍ أن تُلَمْلِمَ خيوطَ شمسه وتصنع منها ثوبُ محبةٍ يُدفئ برد أيامها قارصةُ البرودةِ .. بل كانت على أمل أن شمسَ محبته لا تغيبُ...