- "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّـهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿١٧﴾". [سورة الحج، القرآن الكريم]
- "دعا هيرودس المجوس سرًا، وتحقق منهم زمان النجم الذي ظهر، ثم أرسلهم إلى بيت لحم وقال: "اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي، ومتى وجدتموه فأخبروني؛ لكي آتي أنا أيضًا وأسجد له". فلما سمعوا من الملك ذهبوا. وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي. فلما رأوا النجم فرحوا فرحًا عظيمًا جدًا، وأتوا إلى البيت، ورأوا الصبي مع مريم أمه؛ فخروا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا: ذهبًا ولبانًا ومرًا. ثم إذ أوحي إليهم في حلم ألا يرجعوا إلى هيرودس، انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم" (متى 2:1-12).[الإنجيل].
- "كل إنسان يجب أن يفهم القانون لآلة الحق والخير، ويجب أن يحقق الحب بين الناس فبغير الحب لا حياة ولا خير؛ وتحقيق الحق بالفعل ليس بالقول؛ فأكثر الناس قادرون على كلام الحب عاجزون عن فعله وعلى كل إنسان أن يتمسك بالإيمان الحق أي بالحب؛ وبهذا وحده يتحقق الكمال الأبدي". [الأفيستا المقدّسة]
· مقدمة
· اللامرئيات..
- عاش الإنسان قديمًا لعدة قرون خلت، تحت وطء العرف الموروث، والتقاليد البدائية، وما ساعده في هذا هو: النزع الديني، بطقوسه، وشرائعه؛ وحيث أن الحياة عتبة الموت، أيضًا الموت عتبة للحياة؛ حيث يرقد الأزل، وتتسع الأبدية، يبقى الإنسان تحت ركام العالم الأول بأساطيره.
- وحيث الفراغ الغويط، يتحرك الإنسان حركات طولية، وعرضية في نفس الوقت، وعلى مشارف النشوة لا يفكر في النوم، ولا يعبأ باليقظة، فقط يتأوه في لذة الحلم، ويصلي من أجله صلوات ليس لها أولٌ ولا آخر، يرسم لنفسه بنفسه هذا الحلم الذي يخرجه من الحلم ذاته إلى رحلة الواقع متوكئًا على مفاتيح الرغبة؛ ليعرف ما به من نواميس، ويجعل راياته المثقوبة مصوبة للريح، في محاولة منه لزحزحة السماء قليلًا، أو صيد النجوم وهي تتسكع حول قمر أفل؛ فيستيقظ على سماء نازفة، ونجمة وحيدة ضالة.
- فيفصح عن تأولاته، وتنزيلاته، وشعائره، ويقول: "أموت قرب شهوة الجسد." وهو يرسم فوق الجسد بيتًا من اليواقيت. كان لقاءً أصبح في مخيلتي ألف لقاء.
- الأمر الذي كلفني لأن أكتب هذه الأحبولة أقصد الرواية، حيث تسقط الأحداث الحقيقة في أغوار النسج الخيالي الذي بذاته محض حقيقة، دون أن تسقط كملات الجسد. في الحالتين= الحقيقة، والخيال.
- هذه الرواية تمتد لأحداث حقيقية ممزوجة ببعض الخيال، متسللة حدود الواقع الذي هو في ذاته جزء من مؤامرة تقتفي أثر الخيال، ولكي تصبح في نهاية الأمر تلك الأحبولة اللعينة وما عليها من أنشوطات هوائية، أحبولة أفضت إلى رواية، أو رواية سقطت منها الرواية.
- سامح رشاد
· مدخل
- على مسيرة مائة خطوة من مدينة "أردبيل"، على ضفاف بحيرة رونا يقوم قصر شاهق السماء، داكن اللون؛ شاهت حديقته، واستوحشت شجيراته، وتعفرت نوافذه وأبوابه، وخيّم عليه السكون الفاجع بعد أن خرج النور القُدسي منه يجول بأركان مكان آخر.
- هذا المكان هو (جبل النار – بأبشوزان - أذربيجان) هذا الجبل منذ القدم وهو مزار للمجوس وقد اندلعت فيه النيران منذ سنوات عديدة حتى الآن لا تنطفئ؛ فهو للمجوس جبل مقدّس، فهم يأتون إليه من كل الأقطار كي يقيموا حجهم إليه.
- وها هي النور القدسي "راميل"، كالصلوات غامضة تصعد جبل النار صوب تلك الأرض المدججة بخطواتي، فمن يحمل مشكاة؛ ويتسلل بين أعضاءها؟ من يضئ زيتونة برية ويقذف بها في كوكبها الدري؟ من؟
- لم يكن الضوء وحده من يفعل، أنا، أنا أيضًا أفعل..
· الأحبولة
· دائرة انعدام الوزن..
- ما زلتُ أبحث عنها وأسأل كل عابر وسائر، وأسأل كل شاهد، وعارف، وكل صاحب مقام، وكل شيخ طريقة وأبحث عنها، في كل جب ومرقد بين كل حاضر وغائب، ما دلني أحد عليها.
- خرجت إليها من شمس الذاكرة إلى فضاء الرغبة وتوقفت عند شواهد الموتى وهم يعجنون بخورهم بالمودة فلم يدلوني، وأنكروني. زرعت حدائقَ من الزيتون، والرمان بماء آسن، وغير آسن. وحصدت من منازل الرحمة غير الرحمة وسألت عنها بلقيس وزليخة، وامرأة لوط؛ ما دلني عليها أحد.
- سألت عنها الشيطان بعدما أجلسته على طاولتي المستديرة؛ فلم يجبني. سألت أيقونات الرهبان، والقديسين، وعجائز المشايخ، وكل مولود، وغير مولود؛ ولم يعرفها أحد..
- كتبت اسمها بما أعرف وما لا أعرف، بما أتوكأ ولا أتوكأ فكان ثمة سراب. بحثت عنها في كل رمز، وإشارة، في كل مكعبات اللذة، وكل دوائر العدم، ومستطيلات الطرق؛ فلا تعرفها لغة، ولا طلسمات.
- وفوق بنايات الوقت كتبت شعائري، وطقوسي، وحفرت لي حفرة كبيرة لتتسع لمرقدي، وفيما كانت هي أين كانت؟ فقد كانت، وتحت جسدها زرعت شجرة كبيرة لتكون مقامي..
- وباتت الشمس على مقربة من الأرض، حتى كادت تنسلخ عن السماء، وحين كنت أنا أبحث عن ضالتي كشفت لي تلك العجوز -أي الشمس- عن سروالها المبقع وقالت: "هُيِّئت لك، هُيِّئت لك." حينئذ انطلق حديثٌ دافئ بيني وبينها، هي تلعب بالنهار كالفراشة، وأنا أطارد الضفادع.
- وقالت لي على غير استحياء: "أنت مثلي لكنك تشرق على واحدة فقط، وتسير وحدك في زمن التسكع والحيرة، ثم تبدأ في الطفو وتذوب وتنصهر كالكرة الجهنمية، كمئذنة تشرئب على سطح البحر، وها أنت الآن تحاول أن تصرف رياحك اللواقح فوق برجها العاجي، وتبلل رجليك بمائها المقدس، وتنزع عن عينيها الفسفوريتين حدقتيها، وتنتشر في كل وادٍ تهيم؛ وها هي لا تعبأ بمتاعك إلى حين. لماذا أنت الآن تسقط في شجيرات محبتها الغضة، ولا حول لك ولا قوة؟
- فلماذا تسأل عنها كوكب الزهرة، والشعرى، وأنت تعلم مكانها؟ فهي تسكن في قلبك..."
· الأنشوطة صفر! "مغاليق الليل"
- خَرَجتْ إِليَّ من فياليق الحلم، وخرجتُ إليها من معراج الذاكرة، وكتَبَتْني ورقة ساقطة من شجرة نبتت من الأسى؛ فكتبْتُها علامة على الحياة، فإذا أنا هالك، فإذا أنا شيطان وهي غاوية؛ فكشفَتْ عني غطائي وكتبَتْ على جسمي حروفها، فاشتبكَتْ حروف اللغة فكانت بساطا من ماء أزرق، وكنت أنا كشجرة زيتونية..
· الأنشوطة الأولى "زيت المشكاة"
· النسل المبارك..
- القداسة هي أفضل من كل خير، أقرّ بوصفي عابدٍ لمازدا تابعٍ لزرادشت أحد القائمين على الحكمة الذين يكرهون الأبالسة، ويطيعون قوانين أهورا؛ من أجل تقديم القربان والصلاة، والاسترضاء، والتمجيد للمقدس وسيد القداسة (أهورا).
- إن مشيئة الرب هي قانون القداسة، ولا يتم ذلك إلا بمنع النفس عن هواها باسم الخالق (أهورامازدا) الفاضل المبارك، وباسم تقديس ديانة مازدا الخيرة واهب القوة للجسد، والحياة الطويلة والازدهار والفضائل.
- اسمعوا وأنصتوا الآن يا من أنتم بعيدون، أو قريبون، أنتم يا من تؤدون النصح، والإرشاد؛ لاحظوا هذا في عقولكم أفضل.
- أتحدث عن الروحين في بداية الوجود حين قالت روح الخير لروح الشر: لا نتفق أبدًا؛ عقولنا، تعاليمنا، مشيئتنا، معتقداتنا، كلماتنا، وأفعالنا.. أتحدث عما كشفه لي أهورامازدا، عن بداية الوجود، وبداية الأشياء. هكذا كان (راسل بن بهمن) يحدّث قومه وعشيرته. قبل وفاة راسل بن بهمن حين شعر بإعياء شديد؛ مما جعله يرقد في فراشه طيلة ثلاث سنوات، كان فيهم أشبه بالبناية الخاوية بعد أن كان هو القائم على خدمة قومه لما آتاه الخالق من قوة وبأس شديد. جمع أقاربه، ومريديه؛ وقال لهم: "لم تكن الكهنة موجودة إلا حفاظًا على تراثنا الديني، وإن كنت أنا أحد الصالحين والمهيئين لهذه المهمة؛ فأنا لم أجدني هكذا إلا بمعرفتي بوصايا أجدادي المباركين. الآن أنا بينكم وهذا أخي (دروز بن بهمن) قد مَنّ الرب علينا وجعلنا من الصالحين، وقد ورثنا العهود الذرادتشية من جدنا الأكبر (رابيل)، ونحن أولي عزم وقوة، وأصحاب كمالات، ومقامات..
- أقول هذا وقد اقتربْتُ من عنان السماء الفضية، ولا يسعني العمر لأقدم لكم أكثر مما فعلته من أجلكم. اسمعوني؛ لقد ترك لي جدي الأكبر كنوزًا ما إنَّ مفاتحه لتنوء بالقلوب غير النقية. اسمعوني جيدًا؛ هأنذا وطأت أرض إيران المباركة منذ ميلادي، وها أنا أودعها وأودع خيراتها المقدسة طالبًا من أهورا أن أنال مغفرته وحبه، وبركته.
- هذا الكنز هو ميراث البركة المقدسة إرث جدي الأكبر، هو
- النسل المبارك. قد قصصت عليكم من قبل مرارًا وتكرارًا عن هذا الإرث؛ لكني اليوم أشعر برغبة مهيبة لأذكركم بالبركة المهداة إلى (آل بهمن) وأريد منكم أن تعاهدوني كشيخ كبر به العمر ووهن أن تذكِّروا أجيالكم القادمة به.
- كان جدي الأكبر (رابيل) المجوسي الرابع لأربعة أُرسلوا للملك الطفل في بيت لحم تعظيمًا وتبجيلًا لميلاده بعد أن اهتدى القوم من قبلكم لنجمة ميلاده المبارك؛ فقد أُرسلوا بعطايا، وهدايا للملك؛ أولهم كان يحمل قطعًا من الذهب الخالص، والثاني يحمل البخور والعطور، والثالث يحمل اللبان والحنطة، والرابع (جدي الأكبر رابيل) يحمل جواهر من يواقيت وزمرد من أنقى الأنواع.
- انطلق الأربعة نحو الملك مهتدين بالنجمة المقدسة -مسافة سبع ليالي، وثمانية أيام- انطلقَ الأربعةُ سويًا بعد أن اهتدوا إلى الطريق الصحيح، وبعد مرور أول ليلة لسيرهم هبت رياح ثائرة محملة بالتراب مما جعلهم لا يرون إلا ضوء القمر. افترق جدي الأكبر وتخلف عن الثلاثة الآخرين -من شدة العاصفة الترابية- وضل طريقه؛ واصل السير حتى أشرقت الشمس عليه وهو ما زال تائهًا يبحث عن رفاقه. أخذ يسأل المارة ويدلي لهم بأوصاف الثلاثة فلم يستدل عليهم أحد؛ فواصل السير وفي طريقه صادف طفلًا وطفلة يركنان بجانب صخرة يرتجفان، ويضمان بعضهما بعضًا، يضعان أربطة حول بطنيهما من شدة الجوع، ووجهيهما شاحبين؛ فأقبل عليهما، ووضع يديه فوق رأسيهما ليشعرهما بالأمان، فما لبث إلا أن أخذ الطفلين يبكيان ويرتميان حول خصره، فقال لهم: "ما خطبكما أيها الصغيران؟"
- فأجابا: "تُوفِي أبوانا وتركانا وحيدين، وعمنا قام بتربيتنا طيلة ستة أشهر؛ حتى قالت له زوجته أنها سوف ترحل من المنزل إن لم يتخل عن تربيتنا. فلم يجئ الليل إلا وقد فعل ما طلبته زوجته؛ وليس لنا مكانٌ نعيش فيه، ولا طعامٌ!"
- فنظر (رابيل) إلى الجواهر المكلف بإعطائها للملك (وقد كانوا سبع جواهر) فما لبث إلا أن أخذ واحدة من الجواهر السبع
- وذهب إلي السوق؛ لبيعها. وأخذ المال ورجع إلي الطفلين بعد أن اشترى لهما طعامًا وشرابًا كافيًا، وذهبًا ليستأجر لهما منزلًا، وأعطاهما بعض المال ليشتريا به ما يريدانه، ومسح على رأسيهما بيديه، وقبلهما وذهب إلى طريقه مليئًا بالحزن، لا يفكر في شيء إلا "ماذا أقول للملك؟ الجواهر أصبحوا ستًا بدلًا من سبع. سأقول للملك ما حدث، وأظنه يصدقني. على كل حال الملك لا يعرف عدد الجواهر لكنني سوف أصارحه."
- وواصل السير عساه يجد الثلاثة الآخرين، وبعد وقت من سيره (وهو قد أصبح خائر القوة) وفي طريقه نظر صوب بحيرة صغيرة نائية بجانب الطريق؛ فوجد امرأة عجوزًا قد تملك منها الشيب، وأظفر عليها عبق السنوات. كانت تجلس إلى جوار البحيرة موجهة رأسها نحو السماء، ويديها تتضرعان وتستجديان العون؛ فسألها:
- هل تريدين مساعدة يا أمي؟
- فنظرت إليه العجوز بعد أن توكأت على عصاها الهشة وقالت:
- أريد طعامًا أسد به رمقي، وأعين عظمي على حملي.
- فنظر إليها (رابيل) وقال لها:
- أليس لك أولاد؟ أليس لك زوج؟ وأين بيتك؟
- يا بني قد مات زوجي وليس لي أولاد، وطردت من مسكني. لا أقارب ولا إخوان..
- فقال لها (رابيل) بعد أن جأش قلبه بالحزن، وأدمعت عيناه:
- لا عليكِ أيتها السيدة؛ سأحضر لك ما تسدين به رمقك. لا بأس؛ سأذهب لإحضار ما تريدينه.
- نظر رابيل إلى الجواهر الست المتبقية، وقال:
- ماذا أفعل؟ لا بأس سأخبر الملك عن السيدة وحالها، وله الحكم..
- ذهب إلى السوق وباع جوهرةً أخرى، واشترى طعامًا كثيرًا، وبعض الأغطية، ورجع إلى العجوز، وأستأجر لها منزلًا، ودفع أجرة سنة كاملة..
- (كل ما يشغل رابيل هو اللحاق برفاقه؛ خشية أن يصلوا إلى الملك قبله؛ فيظن الملك ظن السوء به.)
- توجه ناحية الطريق على أمل اللحاق بالثلاثة، فما كان إلا أن وجد سيدة مبتورة الأيدي تحاول ملء دلو من ماء البحيرة؛ لكنها عاجزة عن فعل هذا. فسألها:
- أتريدين مساعدة أيتها السيدة؟
- أريد أن أملأ طنجري من ماء البحيرة.
- فقال لها:
- انتظري؛ سأساعدك..
- فملأ لها الدلو، وسألها:
- هل لكِ أن تحملي هذا بمفردك وأنتِ سيدة ضعيفة وهزيلة!
- اعتدتُ على هذا يا بني كل يوم؛ فأنا أعمل خادمة في بيت أقاربي، أسقي لهم وبثمن الماء أشتري طعامًا لي ولزوجي المريض، وأشتري له الدواء؛ فقد أصيب بالعمى جراء عمله بقرب النار؛ كونه يعمل في فرن حديد.
- سكت (رابيل) وقال في نفسه:
- لم يعد الأمر سهلا هذه المرة! وليكن؛ لن أترك هذه السيدة تكابد عناء العيش.
- فذهب إلى السوق وباع الجوهرة الثالثة ونظر ليده..
- لم يتبقَ إلا أربع! ماذا أفعل في أمر الملك؟
- رجع إلي السيدة بعد أن باع الجوهرة واشترى لها الطعام، - ومن قبل قد طلب منها أن تنتظره بجوار البحيرة- أعطاها الطعام، وكل ما تبقى معه لتشتري الدواء لزوجها، وواصل السير، ولم يمر وقت قصير؛ سمع صوت طفل يبكي ويضحك في نفس الوقت، فوجه عينيه اتجاه الصوت، ووجد بيتًا مصنوعًا من القش يخرج منه الصوت. توجه على الفور إلى الكوخ؛ فوجد طفلًا محاطًا بالأنوار.
- نظر إليه الطفل وضحك بصوت عال، فأقبل عليه (رابيل)..
- من أنت أيها الطفل، ومن أتى بك إلى هذا المكان؟ وأين أهلك؟
- استدار رابيل حوله محاولًا إيجاد أهله فلا يرى أحدًا، فهم ورفع الطفل وضمه إليه، وخرج إلى الطريق يسأل عن أهله؛ فلم يعثر عليهم.. فحمل الطفل برباط حول خصره، وذهب إلى طريقه. وبعد فترة سمع صوت امرأة تقول له:
- انتظر، انتظر. من أين لك هذا الطفل؟
- فقال لها:
- إني وجدته في كوخ وحده فخشيت أن أتركه حتى لا يمس بسوء، لكن، من أنت؟
- أنا والدة الطفل.
- فقال لها:
- لماذا تركته في ذاك المكان المخيف؟
- فقالت له:
- ذهبت لإحضار طعامٍ له، ورجعت فلم أجده.
- أعطى (رابيل) الطفل للمرأة وذهب ليواصل طريقه، وبعد عدة خطوات نادت عليه المرأة مجددًا، وطلبت منه أن يؤنسها بالطريق خشية اللصوص؛ فرحب بها (رابيل) وسارا في الطريق، حتى توقفت وذهبت المرأة. فسألها (رابيل):
- ما خطبكِ؟ لماذا توقفت؟ فقالت له:
- هذا الطفل ليس لي، لست أمه.
- فتعجب لأمرها وسألها:
- أين أهله؟ ولماذا أخبرتني أنكِ أمه؟
- قالت له السيدة أنها طردت من منزلها لعدم سداد أجرة السكن بعد وفاة زوجها..
- وأنا في طريقي إلى أين لست أدري؟ مررت بإحدى الطرق، ووجدت هذا الطفل يبكي، ولم أجد له أهلًا؛ فحنيت إليه وأخذته كي لا يصاب بسوء؛ والله على ما أقول شهيد..
- نظر إليها (رابيل) وتبسم، وقال لها:
- خير ما فعلتِ.
- فطلبت منه المرأة أن يصحبهما في طريقه إلى حيث يمضي، فقال لها (رابيل):
- الطريق طويل حيث أنا ذاهب، وأنا أخشى عليك التعب.
- لا تخشَ عليّ من التعب؛ فقد اعتدت هذا. لكن إلى أين أنت ذاهب؟
- أنا ذاهب لإعطاء بعض العطايا لأحد الأشخاص.
- سوف أصحبك لطريقك فإني لا أجد أنيسًا لي في هذه البلدة.
- فسكت (رابيل) لفترة ونظر إلى المرأة وقال لها:
- أنا ذاهب إلى الملك الطفل المولود في بيت لحم.
- فقالت له المرأة:
- الملك الطفل! وليكن، سأذهب معك لعلي أجد ما يروق لي هناك.
- فسار رابيل والمرأة حاملين الطفل وتوجها نحو طريقهما..
- مرت ليال وتبعتها أيام حتى اهتديا إلى مقصدهما؛ فصرخت المرأة وقالت لرابيل:
- أين الطفل؟
- أين الطفل؟
- هكذا قال رابيل:
- كنتِ تحملينه أين ذهب؟ لا بأس، بعد خروجنا من عند الملك سنبحث عنه.
- ودخلا على الطفل الملك، وسلما عليه، وأخرج رابيل الجواهر الأربع، وأهداها إلى الملك.
- وفي طريقهما إلى الخروج نادى الملك رابيل، فتعجب (رابيل) واستدار خلفه؛ فسأله الملك:
- باقي ثلاث جواهر!
- نظر رابيل نحو الملك، ولم ينطق.. فقال الملك:
- أعلم أنهم سبع جواهر، أين الثلاث؟
- أدرك رابيل أن الملك علم عددهم (من الثلاثة الذين سبقوه)
- فقال الملك دون أن ينطق (رابيل):
- لم يخبرني أحد بعددهم، ولم يصلوا رفاقك الثلاثة حتى الحين.
- فتعجب (رابيل) لأمر الملك وقال:
- لم يسبقوني؟! كيف؟ لقد تأخرت عنهم.
- فقال الملك:
- لم تتأخر عنهم؛ أنت من سبقت؛ لقد هيئت لك كل السبل
- لتصل أنت الأول، وقد علمت أمر الجواهر الثلاث، وعلمت أمر الطفلين، وعلمت أمر السيدة العجوز، وعلمت أمر حاملة الماء.
- فتعجب (رابيل) لقول الملك، و قال له:
- كيف علمت؟
- نظر الملك إلى المرأة وقال لها:
- أين الطفل الذي حملته معك في الطريق؟
- فتعجبت المرأة، ولم تنطق..
- فقال الملك:
- أنا الطفل الذي حملتماه في الطريق..
- ونظر نحو (رابيل) وقال له:
- أنت رجل صالح وأنتِ أيتها المرأة من الصالحات.
- فخذا الأربع جواهر واشتريا بيتًا لكما وتزوجا؛ فإني مبارك لكما..
- فقال (راسل):
- هذا ما قصصته عليكم لتعرفوا مقامات وإجلالات آل بهمن راجيًا من الله أن يمد البركة لجميع الأجيال القادمة..
- فقال راسل -بعدما أتم كلمات نصحه وذكر قومه ببركة نسله-:
- هذه ابنتي الوحيدة (راميل) -المباركة- المغسولة باللبن والعسل، المكتوبة بوجع بالطبيعة، والمرشوشة بتمتمات الأفيستا. ابنتي الطاهرة التي علمتها مما علمت، وكانت لي الأنيس، والعون. هي ابنتي، ولم تكن تشأ الأقدار أن تؤدي شرائع الحج المقدسة طيلة حياتي؛ راجيًا لها أن تنال البركة من أهورا.
- حينئذ صرخت (راميل):
- أبي لا تتركني وحيدة، لن أستوعب الحياة دونك.
- قالت هذا راميل ودموع عينيها تتساقط كحبات التوت لتعلقها به؛ ونظرت إلى عمها دروز، وابن عمها والي، وأسرعت وارتمت بين أحضان والدتها، لكن سرعان ما تراجعت، واستدارت إلى والدها (راسل) فهَمَّ لالتقاطها وهو محصور بين فراش الموت وأغطية الوداع، وقال لها:
- لا تخافي يا محبوبتي، ستنالين من عمك ووالدتك ما كنتُ أرعاكِ فيه.
- استغربت والدة راميل، وقالت محدثةً نفسها:
- لم تكن راميل تشعر معي بالأمان، يبدو أنها تخفي شيئًا في صدرها!
- فقال (راسل):
- دروز، يا أخي، يا ابن أمي؛ عليك براميل وزوجتي بعد أن أقابل مازدا، ولك أن تعتني بهما كما كنت أنا أفعل.
- توجه دروز وأسقط رأسه على يمين (راسل) وقال له:
- ابنتك وزوجتك في رعاية أهورا ورعايتي؛ لا تخشَ من شيء.
- توكأ راسل على كتف أخيه، وأقبلت (راميل) وهي تبكي جالسة تحت قدم أبيها؛ موجهة رأسها إلى أعلى، وطلبت من أبيها أن تنام معه هذه الليلة في فراشه. ومن قبل قد طلب راسل من أخيه أن يصطحب راميل معه بعد أيام لتؤدي طقوس الحج في (جبل النار) في قرية "أبشوزان" ويكون الحج الأول لها.
- رد دروز وقال:
- أمرك يا ابن أمي.
- أمر راسل بخروج الجمع من غرفته تاركين (راميل) مع أبيها..
- بعد خروج عائلة راسل إلي بهو البيت، قال (دروز) لزوجة أخيه:
- لو شئت لجعلتك ملكة، وأطعمتك بيدي، وألبستك من أشجار فردوسي. خمسون عامًا على الأقل يسكن الحزن في المخيلة. واليوم أنال المراد! فكم كنت أقرع على الطرقات مثل تفاحة خاوية، وجافة! وداعًا لأيام البعد..
- فردّت عليه زوجة أخيه:
- على بعد خطوة من الأبدية يقف جسدي المنصوب كالقارة الغارقة في بحر هواك، وسفنك كلها ترفع أعلام شوقي.
- ذهب (دروز) إلى بيته يملأه السرور بعد أن بات ينتظر موت أخيه ليحظى بزوجته! حبه الأول..
- راميل تطلب من أبيها أن يحتضنها كثيرًا وهي بجواره بعدما أحست بأن الموت يدق بابها مناديًا أبيها.
- قال (راسل):
- أعطني رقبتك يا ابنتي.. هذه قلادة النسل المبارك؛ إن اشتد عليك الزمن، وتخلى عنك القريب والبعيد ولم تجدي مخرجًا اكسري هذه القلادة؛ ستجدين فيها حياة تخرجك من كل ضيق، ومكمن حرج.
- تناولت (راميل) القلادة من أبيها وعلقتها بصدرها. مر وقت و(راميل) يروق لها سماع الحكايات من (راسل) حتى صرخت بصوت عال:
- أبي أبي..
- بعد أن سكت عن الكلام، وأدركت (راميل) أن أبيها رحل.
- عم الحزن بيت (راسل) بكل ما فيه من جماد وحيوان، وإنسان
- إلا زوجته كانت تتظاهر بالحزن وقلبها مليء بالسرور.
- كانت (راميل) تعلم أن عمها يحب والدتها، وأنها أيضًا تحبه، لكن لم تظهر(راميل) ذلك؛ لعدم إيقاع والدتها في حرج.
- مرت الأيام وتبعتها شهور، تزوجت والدة (راميل) من (دروز) أخو زوجها. وقررا أن يذهبا إلى الحج، في (جبل النار)، كانت (راميل) تعلم أن هذه وصية أبيها لأخيه (دروز)؛ مما جعلها تطيع أمر عمها ووالدتها على الرغم من حزنها لما حدث جراء زواج والدتها، إلا أنها كانت تخفي هذا الحزن وتظاهرت بالرضا لهذا الزواج.
- كانت (راميل) تميل لعجوز تعيش معهم في البيت تدعى (هايل) أخت أبيها. (هايل) إنسانة صالحة وصادقة توفي زوجها ولم تكن تحظى بذرية لذلك أحبت (راميل) كما لو كانت ابنتها، (راميل) أيضًا كانت تبادلها نفس الشعور.
· الأنشوطة الثانية "معراج التحول"
· الجبل..
- بعد التجهيز للسفر قالت (راميل) لوالدتها:
- عمتي (هايل) تأتي معنا؟
- فردت الأم وقالت:
- نعم تأتي معنا.
- وقبل السفر طلب دروز من (راميل) أن تتزوج من ابنه (والي) -بعد أن طلب والي من أبيه أن يزوجه بها- رفضت (راميل) وقالت:
- أنا لا أريد الزواج..
- فقالت (زوجة دروز):
- انتظر حتى نرجع من حجنا.
- توجه (دروز) وزوجته و(راميل) و(هايل) و(والي) إلى (أبشوزان) القرية الواقعة بدولة أذربيجان، وهي شبه جزيرة تطل على بحر قزوين بها (الجبل المقدس).
- وصلوا إلى (أبشوزان) وكان عليهم نصب الخيم؛ كونها قرية تتسم بالعرق البدوي وأهلها يعيشون في الكهوف والخيم.
- اختار (دروز) مكانًا يطل على بحيرة صغيرة يبعد عن الجبل حوالى مسافة كيلو مترًا، ووضع الأوتاد ونصب خيمتين؛ (دروز ووالي) استقلا بواحدة، والأخرى مسكن (لراميل ووالدتها، وهايل) أخت أبيها..
- كان عليهم المكوث فترة عشر أيام فيهم يقيمون طقوس الاستعداد ليوم الحج -آخر الأيام العشر-
- دخلت (راميل) خيمتها وهي مسرورة بعد أن بدا لها جمال الحياة في القرية وما له من سحر، التلال والوديان والغابات الظليلة، والسهول المشرقة بنور الشمس، والجداول السيالة ذات الخرير، ومن حولها المخلوقات التي تحيا وتطير.
- وما لبثت إلا أن خرجت بمفردها وقصدت ربوة خضراء في الظل تحفل بالزهور، فجلست تفكر وهناك جاءها النوم الرقيق، غفت وهي تتمدد بين الزهور. فجاءها حامل الثمرات
- في حلم؛ فقطفت ثمرة وتذوقتها بينما حل بها السكر وسمعت أنغامًا ذات نبرات رقيقة:
- تعالي معي يا (راميل) اسكني في حديقتي البعيدة، اقطفي منها ما تشتهينه.
- شعرت بنفسها وكأنها تطير على ظهر براق يتقدمها فتى أبيض يقق كجمار النخل، ممسكًا بيده أنشوطة واصطاد لها سرب طيور مغردة وأطعمها تفاحة؛ كتفاحة الخلد، التفت حولها وأطلقت ليديها العنان لترتمي في أحضان الفتى الوسيم، وصدرها كالقز يخرج من شرنقة الرغبة، ويفرش خيوطه حول وجه الفتى، وأظافرها اللؤلؤية تغترس العنق، وفي صوت هامس قالت:
- احملني معك يا من تسعد بمرآك كل الأشياء، احملني كالطيور على كل غصن، وفنن مثل همسات النسيم إلى الأزهار.
- فقال لها:
- حبيبتي ادخلي الجنة معي، أنتِ حلوة في ذاتكِ وأحلى بعد أن أقطفك. لم يفعل هذا لا جن، ولا أنس جمالك هذا أخاذ بالألباب.
- تنهدت (راميل) تنهيدة تقطر بالندى، وانتفضت فزعة، واستفاقت من غفوتها وأسرعت إلى الخيمة. دخلت الخيمة وهي تتعطف بخفقات من السرور وقالت:
- يا له من حلم جميل!
- على بعد عدة أمتار توجد صخرة كبيرة تقع شرق الجبل المقدس؛ هذه الصخرة يتخللها فتحة صغيرة تنبجس منها
- مياه عذبة تصلح للشرب. مرت نحوها (راميل) وفيما كانت عمتها (هايل) تجلس بجوارها؛ نادت (هايل) على (راميل) وأجلستها بجوار الصخرة وقالت لها:
- هنا يا ابنتي هبط "فاهومانا" كبير الملائكة قد جاء ليقود زرادشت إلى السماء ليحظى بشرف لقاء الرب ويستمع إلى تكليفه بأمر النبوة؛ فصدع بالأمر. ثم قال بعدها: "سأنزل إلى الناس وأقود شعبي باسم أهورامزدا من الظلام إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن الشر إلى الخير."
- ولمدة عشر سنوات ظل يدعو الناس إلى عبادة الرب، وقد لقى عداوة كبيرة جعلته يذهب إلى أحد الكهوف القريبة من
- هنا ويعتزل الناس، ويقترب أكثر من الرب؛ فجاءته الملائكة ولقنته أصول الحكمة وحقيقة النار المقدسة، وكثير من الأسرار؛ فبدأت سحابة اليأس المظلمة تنقشع عنه وعاد مجددًا يدعو الناس إلى عبادة (أهورا). كانت له ابنة جميلة جدًا تدعى (راميل) لذلك أسماك أبوكِ على اسمها؛ كانت (راميل) ابنة زرادشت تملك الحكمة -التي أورثها أبوها لها-وتحكم بين الناس بعد موت أبيها. وكان لها أمر المباركة في الزواج وطقوس دفن الموتى.
- وذات ليلة بعد عودتها إلى الكهف التي تعيش فيه وقد كانت تبارك زواج ابن الملك (كاشتاسب) الذي أصبح فيما بعد زوجًا لها؛ نادتها الملائكة وقالت لها:
- انظري إلى الشرق وحيث تحط دابتك؛ فانزلي واركعي؛ فهنا أرض الطهارة، أرض النار المباركة.
- نزلت (راميل) وركعت بعدما تعطلت دابتها، وهبطت فأخرجت الأرض من حصاها هذا الماء المبارك يا ابنتي. مكثت (راميل) ابنة زرادشت في هذا المكان ثلاثة أيام لا تكلم أحدًا، وكانت تعيش على الماء المتدفق من هذه الصخرة دون طعام. وعلم أهل البلدة بهذا؛ فأبلغوا الملك وفيما كان الملك يجلس على سريره الأخاذ المصنوع من الخشب الوردي، فقد أمر الحراس بإحضارها لعنده وبعد أن التقى بها فقال لها:
- أنتِ باركت زواج ابني منذ أيام، وها هو ابني.
- وأمر الحراس بإحضار ابنه.
- قد عجز عن أن يطأ زوجته، فما معنى بركتك ألا تكون لا بركة!
- فقالت (راميل):
- هذا ابنك لا لوم عليه، أسأله عن زوجته.
- فعلم الملك أن زوجة ابنه لا تصلح للزواج؛ فأمر بأن يتزوج ابنه من (راميل) وأن تعيش معهم في قصره. وافقت (راميل) من زواج ابن الملك، وبعد الزواج مات الملك وورث ابنه العرش، وأصبحت (راميل) ملكة لهذا الشعب، فكانت تحب عمل الخير؛ وتبرعت بكل أموالها إلى الفقراء حتى باتوا يسمونها النبية. هذه هي ابنة الرسول زرادشت (راميل) لذلك أسماكِ أبوكِ بهذا الاسم. فقالت (راميل) لعمتها:
- من قبل سمعت من والدي أن أحدهم كان يدعى (بهافريد) ادعى على نفسه النبوة وقال أن الوحي السماوي نزل عليه وأن كثيرًا من الزرادشتين صدقوا ما قاله، وأنه رأى أن الجنة والنار تقبعا في السموات، وكان يجئ إلى هذا الجبل لكي يعتكف فيه، وأن الوحي السماوي كلمه من خلال هذه الصخرة المباركة -التي لا ينقطع منها الماء-
- قالت (هايل) بعد أن كاد وجهها يشحب:
- يا ابنتي ديننا الحق هو التسليم لرسول واحد هو (زرادشت) وكثير ممن ادعوا النبوة بعده قد أصابهم غضب من السماء.
- قالت (راميل):
- لكن يا عمتي لماذا كان الناس يحبونه ويعتبرونه كزرادشت؟
- لا يا ابنتي هو ليس كزرادشت فقط، هو كان رجل ثري وكان الفقراء يأتون إليه من كل مكان طالبين المساعدة؛ ومما ساعده في ذلك أن الناس كانوا بسطاء ومعظمهم غير متعلمين، لكن هذا لا يقلل من شأنه كونه رجلًا صالحًا، أما بخصوص النبوة فزرادشت فقط هو النبي.
- قالت (راميل):
- وكيف علم زرادشت أنه النبي؟
- قالت لها (هايل):
- هذا ما أقصه عليك وأنا متأكدة أن أبيك قد قص لك من قبل عنه. هذا هو (بوروزهازيو) والد النبي يسكن هنا وكان له حقل يرعى فيه الماشية، وجاءه الوحي وأعطاه غصنًا من نبات الهوما المقدس، وأمره أن يقدمه لزوجته (دوغاما) بعد أن مزجه بالزيت وشربت (دوغاما) منه وبعد شهور حملت في النبي. وفي إحدى الليالي جاءها طير كبير وانتزع النبي من رحمها ثم عرج السماء. وبعد عشرة أيام وفيما كانت (دوغاما) تحزن حزنًا شديدًا جاءها الطير مجددًا وألقى النبي في رحمها ثانية، وقال لها الوحي: "إن الذي تحملينه في رحمك هذا هو النبي القادم في الزمن القادم."
- وحين ولد النبي فرحت به أمه وذهبت به إلى معبد النار كي تباركه، وفي الطريق اعترض سيرهم ثلاثة ذئاب؛ فخرجوا على النبي وأمه، وفيما كان والد النبي يلزم فراشه لشدة الإعياء قالت (دوغاما) وهي موجهة رأسها إلى أعلى: "هذا نبيك ورسولك لا تؤذه." فردت السماء في شكل صاعقة ورعد شديد، فعلمت الأم أن السماء سوف تنجي ابنها.
- توجهت الأم نحو المعبد والذئاب باتت تحرسها هي وابنها حتى وصلا إلى المعبد، فوجدت النار تضطرم أكثر كلما اقتربت ومعها النبي، فحدثت نفسها قائلة: "ربي ربي هذا لك، هذا لك." وأشارت إلى ابنها (وقد كان مغمض العينين حينذاك) حتى اشتعلت النار بغزارة مما دعى الأم لترك ابنها والتفت إلى الوراء، فوجدت طفلها بالجانب الآخر للمعبد وهو مفتوح العين وقال لها: "الآن أنا مفتح العين، وهذا مغمض العين." وأشار إلى نفسه في جانب النار. "هذا هو الشر فقد أخرجته السماء عني، فأنا الآن الخير، وستظل عيني مفتوحة إلى حين موتي."
- وبعد أن بلغ أربعين عامًا اعتزل زرادشت القوم وعكف داخل الكهف حتى جاءه الوحي السماوي وألقى عليه التعاليم المقدسة.
- قالت (راميل):
- أنا أحب هذا الدين بشدة..
- مرت أولى الليالي في الجبل وكل شيء يبدو (لراميل) على ما يرام. إلا بإشراق صباح اليوم الثاني؛ دخل (والي) خيمتها بعد أن تأكد من خروج والده ووالدة (راميل) للاستمتاع بمنظر البحيرة القريبة من الجبل، ونسى أمر عمته (هايل) حيث وجدها نائمة، تسترسل الأحلام، وتقذف بها في صوت زمجرة وقال ل (راميل):
- صباحك سعيد يا ابنة العم.
- صباحك سعيد يا والي.
- ليلة أمس لم أذقْ للنوم طعمًا، ولم يهدأ لي جفنٌ.
- فقالت له:
- وما شأني بهذا؟
- فقال لها:
- كنت أفكر في جمال هذا المكان الساحر وما له من ظلال؛ وكيف ازداد جماله لما وطأتِ أنتِ أرضه.
- تنهدت (راميل) بأفاف:
- أف أف، ثم ماذا؟ اترك الخيمة.
- اسمعيني يا راميل، أنا أريد الزواج منك وأعلم أنك رافضة؛ لكن لن أتركك بعد أن نرجع البلاد.
- فقالت له:
- اخرج من الخيمة وإلا ناديت أهالي القرية يخرجونك.
- قالت هذا بصوت مرتفع، مما أيقظ (هايل) من نومها؛ فتقدمت وصرخت في وجه (والي)؛ مما دفعه إلى الركل بعمته العجوز فأسقطها أرضًا ووشى عليها؛ فصرخت (راميل) حتى جمعت أهل القرية إلى خيمتها، ونددوا بما فعله (والي) وطرحوه خارج الخيمة، وحاولوا إفاقة (هايل) العجوز؛ لكن اشتد الأمر صعوبة لما وجدوها تنزف من رأسها دمًا؛ فأسرعت (راميل) لتستنجد بعمها وأمها. فأقبلا داخل الخيمة، وحملوا (هايل) وأخرجوها إلى الخارج. فجاءتهم (زيار) العرافة وقالت: "اتركوها لي" وقامت بوضع بعض البهارات العشبية فوق الجرح وأسقتها شرابًا أخرجته من جعبتها، وانتظرت حتى تفيق (هايل) وهي لم تغض نظرها عن (راميل)؛ مما استدعى (راميل) لتنتبه إلى نظرات زيار العرافة؛ فقالت العرافة (لراميل): "أنتِ تشبهين ابنتي في كل شيء، حتى صوتك يشبه صوتها، نفس الملامح، الطيبة، الأخلاق.."
- أطال الله في عمر ابنتك.
- هكذا قالت (راميل) ل (زيار)، فنظرت إليها (زيار) وبدأ الدمع ينهمر من عينيها في محاولة منها لإخفائه، وقالت:
- لا بأس يا ابنتي، لا بأس.
- وأسرعت إلى كهفها بعد أن تأكدت من سلامة (هايل)، وعلمت (راميل) أن هذه السيدة تخفي شيئًا يخص ابنتها مما أظهر حزنها.
- دخلت (راميل) الخيمة ومعها (هايل) بعد أن خرت ساجدة أمام الجبل، وكانت صورة (زيار) العرافة أمام عينيها لا تفارقها.
- خرجت (راميل) إلى ساحة الجبل، وقد بدأ الأهالي يعرفونها، ويحبونها، حتى صادفت امرأة وسألتها عن مكان (زيار) وسألت كيف هي عرافة وقد قامت بعلاج هايل؟ فعرفت أن زيار سيدة صالحة توفت ابنتها جراء سقوط حجر فوق رأسها في الكهف، وهي تعرف في علم التنجيم والودع وأمور الطب وهي تحفظ الكتاب المقدس (أفيستا).
- ذهبت (راميل) لزيارة (زيار) في كهفها ودخلت عليها ووجدتها تبكي بكاءً شديدًا؛ فهمت (راميل) وألقت (زيار) في حضنها وسألتها: "ما الذي يبكيك يا أمي؟" نظرت زيار إليها ووجهها مملوء بالفرحة عند سماع كلمة "أمي"..
- تعالي يا ابنتي، منذ سنوات طوال وأنا أعاني الحزن؛ فقد ماتت ابنتي جراء حادث وقع لها. كانت تكبرك ببضع سنوات، ومن قبلها مات زوجي.
- وسكتت عن الكلام لفترة، ونظرت إلى (راميل)..
- هذا ما أحزنني بعد حزني الأول!
- ردت (راميل):
- حزنك الأول! ماذا تقصدين؟
- لا شيء يا ابنتي، لا شيء. أنتِ تشبهين ابنتي الصغرى المتوفية.
- تعجبت (راميل)..
- ابنتك الصغرى! ماذا تقصدين؟
- لا تهتمي (يا راميل)، قد علمت أنك أتيتِ لإقامة شرائع الحج، وأظن أنكِ أول مرة تأتين إلى هنا. فقالت (راميل):
- من سوء حظي أنني لم آت إلى هنا من قبل. فقد أوصى أبي قبل وفاته أخاه دروز باصطحابي إلى الحج هذا العام.
- لا بأس يا ابنتي، كل أهل القرية أهلك.
- فقالت (راميل):
- عليّ الذهاب إلى خيمتي حتى لا تقلق أمي عليّ.
- تفضلي يا ابنتي. لكن عاهديني أن تزوريني كلما راق لكِ.
- بالطبع فأنا أحببتك كثيرًا.
- ذهبت (راميل) لخيمتها، وأخبرت والدتها عن أمر هذه السيدة، وخلدت إلى النوم وهي تفكر في أمر زيار وما قالته (ابنتي الصغرى) هل للسيدة ابنة أخرى؟ أين هي؟ ولم لا أحد يعرف عنها شيئا؟ أمر غريب!
- بدأت راميل استعدادها لمراسم الحج، وبدأت في ترتيل الآيات المقدسة حتى غلب عليها النوم بعد أن اطمأنت على (هايل) عمتها. جن الليل على القرية وكل شيء أصبح يتغنى بالصمت، الرياح، الأشجار، حتى صوت المياه؛ أصبح كالجماد..
- ذهبت (راميل) وكان الليل يتحدث إليها بصوت هاتف بعد أن حلت ضفائرها للهواء، وعقدت شالها المورود بين الليل، والضحى كأنها المستفيقة في الأفق كنجمة، كفراشة واثقة، فما استفاقت لحين تغابش الفجر، فنسجت خيوطه أخاديد ووديان على جسدها. وحين استرخت لتنام كانت تسمع همس السموات في أحلامها؛ فنظرت إلى مكان الجبل من نافذة الخيمة، ونفسها تتجلى في الفضاء، تفيض بالحياة وبرح الشوق بالحياة.
- جاء الصباح وأشجار الحور اللامعة المغمورة بضوء الشمس تتمايل، والبحيرة بين التلال الموحشة تتلألأ مياها، فانفكت بها عري الروى، وقادتها الخطى وجلًا إلى طرف البحيرة، والسماء مزينة بالزرقة، والنطف الخبيئة تشريب كغابة ممطورة.
- جلست على صخرة وأدلت ساقيها البيضاوين إزاء المياه، وأخذت تمد أنفاسها للفراغ الغويط وهي تتأمل حنطة بطنها، وعجين سرتها، ويديها ممسكة بشالها الأزرق تلوح به عن تفاصيل جسدها، وتكشف عن روضة نهديها المطرزتين بالفستق. ونزلت إلى البحيرة بطوفانها، وأمطارها، وبدأت تخلع أعضاءها عضوًا عضوًا متلحفة الأمواج بعرائش جسدها الفضفاضة حتى انخرطت في اللهو واللعب كطفلة تتلفع ببهاء الرغبة.
- ظهر (والي) بعد انفلات الرغبة من طوالع رؤياها، وجواب مشاهدتها -كان يتلصص وراءها خلسة- وأسرج كظهر النهار بعد أن رأى نقوش جسدها تلمع في البحيرة كمراكب الشمس، وتعطش لعناقيد الرغبة المحتدمة وهو منخرط في خيالاته.
- حتى انتبهت له (راميل) وأسرعت للخروج وهي تخبئ جسدها المرمري بشعرها المسدول؛ لتلحق بشالها الأزرق، فما لبثت إلا و(والي) ينقض على الشال ويمسكه ببراثنه الحدبة؛ صرخت (راميل):
- أنت أيها (الوالي) تبًا لك، ارحل واترك ما بيديك.
- ضحك (والي) في سخرية وأخذ الشال يلوح به حتى ألقت عليه (راميل) اللوم والعتاب وأخذت تهدده، فصعد (والي) إلى ربوة قريبة من البحيرة ووضع الشال فوق رأسه مناديًا (راميل):
- لكي تنالي أغراضك؛ عليكِ الصعود إلى الربوة.
- ترددت (راميل) وقالت في نفسها: "لن يصغِ هذا (الوالي) لكلامي."
- فأخذت تستعطفه بحيلة:
- اسمع يا (والي) أعطني الشال وأعدك أن أجلسك معي صوب البحيرة.
- فقال لها: أعطيكِ شالك على أن تفعلي ما قُلته.
- نعم سأفعل ما قلته.
- إذن لك شالك، لكن إن لم تفعلي سأنال منك ومن شالك.
- سوف أفعل؛ لكن أعطني إياه.
- ألقى (والي) الشال بأطراف البحيرة وأسرعت راميل ووضعته على جسدها؛ وحاولت الخروج من الشاطئ لكن (والي) ألقى قبضته وأمسك ذراعيها وهي تصرخ وتضرب فوق صدره باللكام؛ حتى بلغت الهدوء من شدة التعب. وقالت:
- اسمع يا (والي) أنا ابنة عمك، وما فعلته أنت شيء لا يليق بابنة عمك؛ اتركني أرحل، وإن لن تفعل سأذهب وأخبر والدك.
- لم يهتم (والي) لكلام (راميل) وقال لها:
- أنتِ ابنة عمي وسوف تصبحين زوجتي؛ فلن أترككِ إلا لأن تقتليني، أو تستمعي إلى كلامي.
- فكرت (راميل) وقالت:
- أسمعني كلامك على الفور.
- فقال لها:
- أنتِ أميرة ولو شئتِ لجعلتك ملكة وألبستك قلبي تاجًا فوق رأسك، ولو شئتِ لأعطيتك عيني، لو شئتِ لانتصبت أمامك كالقارة، وأعلنتُ على الملأ نبأ استشهادي، وأقيم بين يديك صلوات لا لها أول ولا لها آخر، وأذبح رقبتي وأقدمها لكِ قربانًا، لو شئتِ لجمعت الشمس والقمر في جرة ذهبية وألقيت بقلبك داخلها. لو شئت لكتبت من أصابعك رموزًا وطلاسمًا لا يفكها إلا أنا. تمت لكِ النعمة والمجد يا صاحبة كل فتوحاتي.
- فغضبت (راميل) وقالت له:
- اذهب إلى أهلك كي يكفنوك؛ فأنت ذاهب على نفسك حسرات فلن تحصد سوى الهباء. ابتعد عني.
- لا لا، لا أبتعد عنك، لكِ أن تشقي صدري أولًا، لكن لا أبتعد.. أنتِ من زُينَت لها أخاديد الشمس، ومنازل القمر، وأنتِ علامة على الحياة؛ والحياة علامة لك. دعيني أكشف لكِ عني؛ فأنكشف أمامك. وأكشف عنك لي؛ فتنكشفي عندي.
- فقالت له:
- اتركني وشأني أيها الشاب المغرور يا صاحب العقل الرضيع.
- لا يا (راميل) لقد بلغت مبلغ الرجال وأنتِ أرض خصبة تحتاج الحنانات، وإني لأحننك بيدي هاتين.
- ومد يده نحو صدرها وهو ممسك بأطراف شالها حتى كادت ترتمي على الأرض، وتصغي له. لكن قامت بركله فخَرَّ على الأرض وهو ممسك بشالها؛ فوقع الشال بالأرض، وبدت له كشجرة من التفاح تتساقط منها نزات العسل كقطرات الماء. أخذ يلهث كالكلب؛ يرتشف الماء المتساقط منها وهو يجثو على ركبتيه كالكبش، والتف برأسه يتشمم رائحة ساقيها، وهي تكاد تسلم نفسها له لولا استفاقت، وأخذت حجرًا كبيرًا ورمت رأسه به فترك ساقيها وأمسك برأسه المشقوق ويديه قانة بحمرة دمه؛ فصرخ في وجهها، وانتصب كالنخلة وأمسك بعنقها محاولًا خنقها، فتخلصت من قبضته وهرولت مسرعة إلى خيمتها متخفية خشية أن يراها أحد.
- دخل (والي) على أبيه ورأسه مغطى بالدماء، ووجهه شاحب، فقال له أبوه:
- ما الأمر يا بني؟ بعد أن احتضنه..
- من فعل بك هذا؟
- فقال:
- كنت استيقظت مبكرًا فذهبتُ إلى البحيرة كي أستمتع بها فوجدت (راميل) تستحم في البحيرة، مما دعاني أن أغضب خاشيًا أن يراها أحد وهي تستحم؛ فأمسكتُ بها وقلت: "ما الذي تفعلينه يا (راميل) هنا؟ هذا أمر غير محبب، اخرجي معي من الشاطئ وإلا قلت لأمك، وعمك." ورفضَت الخروج وقالت: "لا شأن لك." فحاولت أن أجرها خارج البحيرة، فأمسكت هي بحجر وألقت به فوق رأسي. ولم تعبأ بقدسية عاداتنا، وتركتني أسيح في دمي، وذهبت إلى خيمتها.
- ذهب دروز إلى خيمة (راميل) غاضبًا وحكى لزوجته ما فعلته ابنتها بولده؛ مما استدعى والدة (راميل) لضربها دون أن تستمع لكلامها، وقالت لها:
- اسمعي يا (راميل) بعد انقضاء أيام الحج سوف تتزوجين من (والي)، وإن لم تفعلي سوف أقتلك.
- لا يا أمي، اسمعيني، لا تصدقي (والي) فهو حاول التجسس علي وأنا أستحم. وحاول أن ينال من جسدي ومنعته. فقالت أمها:
- سوف تتزوجينه. شئت هذا أم أبيت، ولا نقاش في هذا مجددًا.
- قالت (راميل) لعمتها (هايل) فيما كانت تستمع لحديث زوجة أخيها:
- لا لا، لا أتزوجه يا عمتي. فقالت لها عمتها:
- لا بأس يا ابنتي. أنا أعلم أنكِ صادقة ووالي كاذبٌ. لا بأس. سوف ندبر هذا الأمر بعد عودتنا إلى بلادنا. اذهبي الآن واستريحي، أنتِ بحاجة إلى الراحة.
- ذهبت (هايل) إلى خيمة أخيها قالت له:
- لا يمكن زواج (راميل) من (والى) إنها لا تحبه، وأنت تعرف أنها لا تحبه.
- قال (دروز):
- وما شأنك أنتِ أيتها العجوز؟
- فنظرت إليه محاولة أن تستعطفه بروح أخيهما راسل لكن لم يجد هذا الأمر نفعًا. وقال لها (دروز):
- إن لم تتزوج (راميل) من (والي) سوف أخبرها عن السر الذي لا يعلمه إلا أنا وأنتِ، وزوجتي، وأخي الميت!
- شحب وجه (هايل) وقالت له:
- إنك لفي ضلال مبين، أنت لست إنسانًا. سأساعد (راميل) حتى آخر رمق في حياتي.
- وذهبت (هايل) إلى خيمتها يعتريها الحزن وتشقى لما سمعته من أخيها، باتت في حيرة من أمرها تلف ذات اليمين وذات الشمال؛ الأمر الذي دفع (راميل) لتسألها عن سبب حيرتها وحزنها. سكتت (هايل) عن الحديث، وجلست فوق الأرض ووهج الجرح ينهال على وجهها؛ فأخذت راميل تطبطب على رأسها حتى هدأت..
- دروز ووالي وأم راميل يتشاورون في أمر (راميل) محاولين إيجاد ما يجبروا (راميل) على الزواج. قال (والي) لأبيه:
- سأحاول إقناع (هايل) عمتي فأنا أعلم أن (راميل) لا ترفض أمرًا لها.
- ذهب (دروز) لإحضار (هايل) إلى خيمته، ويحاول أن يطيب بخاطرها لكن (هايل) تعلم أن (دروز) لا يعاملها باللين هذا، إلا إذا كان ينوي فعل شيء سيء. ذهبت معه (هايل) إلى خيمته وفي الطريق سألته إذا كان ينوي أن يبوح بالسر إلى (راميل)! فسكت وهز رأسه: "لا لا يا (هايل) هذا سر قد عاهدت أخي عليه." دخلا إلى الخيمة، واجتمعا (بوالي) وأم راميل إلى أن أشرق الليل بعباءته على القرية حينئذ ذهبت (هايل) إلى (راميل) بعد أن قررت أن تقنعها بأن تتزوج من (والي) لكن الأمر ازداد صعوبة حين وجدت (راميل) تصر الحزن بأسنانها، والدمع يملأ وجهها؛ فقالت (هايل):
- لا تخافي يا ابنتي، سأمنع زواجك من (والي) مهما حصل.
- سكتت (راميل) عن البكاء بعدما احتضنتها (هايل) وخلدتا إلى النوم.
· الأنشوطة الثالثة "المتاهة"
· مستشفى الأمراض العقلية..
- على مرأى ومسمع من النجوم الشواهد والرمال المقذوفة بالجمرات، والمداهنات؛ وأنا واقف على ساحل البحيرة، ربما لأفك عقد الفضاءات بالمناوشات، وربما لأتوكأ على فراغ الذكرى والاستسلام للغاويات.
- كنت دائمًا أعقد صفقات مع الهزائم المتكررة، وكنت أساوم الأسى وأحيانًا أطارده! أمسك بفراشات الضوء تحت شمس المجازات والتكهنات. وكم من مرة قبضت على البصيرة بيدي هاتين محاولًا الكتابة على حائط الأبدية، أو حتى لأن أكنس شوارع الجسد وكمالاته، وكم تسألت لم هذا الجسد دون غيره؟ لمَ هذه دون غيرها؟ ولمَ قرَّبتني إليكِ أيتها المجوسية المتلفعة بغطاء الرغبة وكمال الرؤية؟
- هكذا: كنت أتحدث مع الدكتور (أيوب) خلال مكوثي بمستشفى الأمراض النفسية؛ تحدّث إلي طبيبي -الدكتور أيوب- بعد عدة لقاءت لطيلة أيام كثيرة؛ كنت فيهم أرفض الحديث نهائيًا؛ غير أنني كنت في مدارج ذهولي بعد أن أظلم النور، وهبت عواصف جامحة تأججت نارًا اقتلعت جوارح قلبي، وعقلي.
- وكنت على شفا جرف هارٍ، كانت أيامي مثقلة بذكريات تبنت وليدة الحب لحيني هذا، وقد عولت على نفسي بالحزن، واستملك مني الحلم المطعون بسكينتي الباردة، وسقطت دوافع الحياة، ونبت في أيامي الشيب...
- كان يعلم (الدكتور أيوب) أنني أخفي شيئًا داخلي، هو من دعاني للوصول إلى هذا الحزن الدفين الذي استحوذني. كان (الدكتور أيوب) يردد دائمًا جملة جعلتني مع مرور الوقت عندي رغبة أن أبوح له عما بداخلي. "كل شيء في الحياة يتغير -وهذا أمر لا شك فيه، ولا موقع فيه للتأمل- حتى الإنسان بين صباح مساء يتغير، لكن ما لا نسمح به أن يتغير هو الذكريات الجميلة." كان من الطبيعي أن أكشف النقاب له عن سبب حزني؛ بعد أن تأكدت أنه ليس مجرد طبيب مكلف بعلاجي..
- أصبحت العلاقة التي تربطني بالدكتور (أيوب) علاقة ترتقي إلى ما أشبه بالصداقة فكان عليّ أن أحكي له من البداية..
- أنا أحمد مهندس جيولوجيا، عملت لسنين طوال في إحدى شركات البترول الكبرى، صنفتني الشركة من أفضل المهندسين لديها؛ الأمر الذي دعى مدير الشركة أن يجدد العقد المبرم بيننا بعد انتهاء العقد الأول، هذا الأمر الذي جعلني أطلب إجازة قبل عملي مجددًا بالشركة، وكان دافع هذه الإجازة زواجي من مريم فكنت تزوجتها من سنة تقريبًا، وانخرطت في العمل لفترة ولم أحظَ بإجازة لأستمتع فيها مع زوجتي.. رحب مديري بهذا وقد عاهدته أن أرجع لعملي بعد انقطاع الإجازة. ذهبت إلى منزلي وأنا مسرور، الأرض من تحتي في ردائها الحافل، والسماء نازفة بزرقتها من فوقي.
- مر يومان كنت فيهم أشبه بالطفل، ألعب وألهو مع مريم زوجتي، ذانِك اليومان فيهم كنت قد جددت علاقتي بمريم كأني أعيش معها فترة الخطوبة وما فيها من ذكريات جميلة، بدأنا نتذكر أمورًا قد أنستني الأيام إياها، كانت تذكرني بأول لقاء لنا حين وددت أن أوصلها بسيارتي بحكم أنها كانت زميلة لي بالدراسة؛ فرفضت وقالت لي أنها تريد أن تذهب مع صديقاتها. وفي الطريق وأنا أسير بالسيارة؛ سقطت إحدى العجلات في بركة مياه مما جعل الماء يتناثر على المارة وكانت مريم واحدة منهم؛ فنال الماء من فستانها الأبيض وأغرقه الطين؛ فجعلها تصرخ في وجهي وتلقيني بكتبها داخل السيارة، وقالت لي: "أنت أعمى؟" فتبسمت وقلت لها: "نعم أنا أعمى" حينها ضحكت ضحكة بريئة، وطلبت مني أن أناولها الكتب فرفضت، وجريت بالسيارة، ولم تلحق بي؛ فغضبت وبدأت تضرب الأرض بقدميها حتى رجعت إليها وأعطيتها الكتب، فخطفتهم مني وواصلت السير مع صديقاتها، وأنا أراقبها إزاء إشارة مرور وهي تهتف إلى صديقاتها، وينظرن نحوي؛ علمت أن الحديث يدور عني مما جعلني أميل إليها فهي رقيقة، جذابة، منظمة جدًا، وبعد عدة لقاءات بيننا تم الوفاق وتزوجنا.
- مرت بنا الساعات ونحن نحتفل كل دقيقة بذكرى مختلفة، كان الوقت يمر سريعًا حتى حدث شيئًا غير متوقع.. رن هاتفي وكان مديري...
- أهلًا أحمد!
- تعجبت لهذا الاتصال وأوجست منه خيفة:
- أهلًا بك. وقال لي:
- أحمد أنت ضمن المكلفين للبعثة الجيولوجية المتجهة إلى أذربيجان. تملكني الصمت لفترة، فقلت له:
- ما الأمر؟ فقال:
- قد ذاع حديث عن جبل أسطوري يقع في شبه جزيرة أبشوزان المطلة على بحر قزوين، وقد كلفت الأمم المتحدة بعض الشركات من بعض الدول للذهاب إلى الجبل؛ لتقصي حقائق عنه.. حيث ذاع أن هذا الجبل اندلعت فيه نيران منذ عصور قديمة ولم تنطفئ هذه النيران. وقد كلفت أنت وأشرف -زميلك- للقيام بهذه المهمة مع بعض مندوبي الشركات الأخرى، ويجب التجهُّز للسفر خلال يومين..
- كانت الصدمة يمكن احتوائها لو اقتصر أمرها عليَّ وحدي، لكن كان يصعب إبلاغ زوجتي بهذا الأمر مما جعلني في حيرة من أمري كيف أبلغ زوجتي؟ سوف تحزن، ماذا أفعل؟
- أحمد، أحمد، قد أعددت لك القهوة.
- هكذا حدثتني زوجتي حبيبي. "أنت أغلى شيء في حياتي." بدا الأمر يزداد صعوبة، وبعد أول رشفة من فنجان القهوة نظرت إلي (مريم) وقالت:
- سوف أعد لك شنطة سفرك.
- شنطة سفري؟ ماذا تقصدين؟ فقالت:
- شكرًا لقد سمعت مكالمتك الهاتفية.
- تعجبت لأمرها! وقلت:
- ألن تكوني حزينة؟
- لا أنا حزينة جدًا، لكن الأمر لا يجدي نفعًا!
- كيف يا مريم؟ فقالت:
- هذا عملك ومستقبلك، فلا يمكن أن أكون حائلًا يمنع سيرك نحو مستقبلك.
- تقصدين مستقبلنا.
- نعم أقصد مستقبلنا. اذهب يا (أحمد)؛ فنحن بحاجة إلى المال، وعند عودتك سوف نقضي إجازة أخرى..
- شكرًا (مريم) على تفهمك الموقف.
- لا بأس.. هل من الممكن أن أطلب منك طلبًا؟
- ما قالته (مريم)
- تفضلي.
- هل من الممكن أن تأخذ صورتي معك وتعاهدني أن تحتفظ بها في جيبك؟
- بكل سرور حبيبتي..
- جهزت لي (مريم) شنطة سفري، وانتظرت محاولًا أن أتهيأ لسفري، بدأت أجمع معلومات عن هذا الجبل وعن دولة أذربيجان، خاصة بلدة أبشوزان.
· الأنشوطة الرابعة "مقامات الحال"
· اللقاء.. مطار باكو العاصمة...
- بعدما وصلنا إلى العاصمة باكو قد حجزت لنا الشركة غرفة بفندق "ليمان" داخل العاصمة -باكو- وبعد مكوثنا يومًا في هذا الفندق سألنا عن بلدة أبشوزان -الواقع فيها الجبل- فكانت الصدمة لنا جميعًا؛ حيث علمنا أن الفندق يبعد عن بلدة أبشوزان حوالي ثلاث ساعات بالسيارة، والطريق المؤدي إلى البلدة كله منعرجات، وبرك مياه، ولا يوجد إلا هذا الطريق..
- قلت (لأشرف) زميلي:
- أكانت الشركة تعلم هذا؟
- لا أعرف، لم تخبرنا عن هذه الأمور.
- أسرعنا لنسأل باقي زملائنا كانوا من بلاد عدة ولا أحد يعلم شيئًا! ما كان علينا فعله هو الرجوع إلى بلدنا، أو التسليم للأمر الواقع.. ألقى (أشرف) علينا فكرة أن نأخذ معنا خيم و ما شابه ذلك نسكن فيها بدلًا من إرهاق أنفسنا في الطريق، وسألنا في مراكز الشرطة إن كان هذا متاحًا أم الدولة تمنع هذا؟ لكن جاءتنا صدمة أخرى حين علمنا أن هذه البلدة لا تخضع إلا للأحكام العرفية لأهلها؛ بحكم أن أهلها من البدو، ولا تتدخل الحكومة في شؤونها، وأن أهل هذه البلدة لهم طقوس وشرائع موروثة عن أجدادهم، وأن كل أهلها يعيشون في الكهوف والخيم.
- نظر أشرف إليّ، وقال:
- يبدو أنها رحلة مثيرة!
- بالفعل.
- ذهبنا لشراء الخيم، كل اثنين منا يبيتون في خيمة واحدة، وكان نصيبي أن يسكن معي في خيمة واحدة بحكم أنه من بلدي مصر هو (أشرف).
- جاء اليوم الموعود -ثاني أيام بقائنا في العاصمة باكو- ذهبنا في رحلة إلى الجبل مستقلين سيارة أجرة. حاولنا الكلام مع السائق كان يتحدث لغة غريبة لكن كان مدركًا بعض الشيء عن اللغة العربية، وبعد الحديث الممل مع السائق اكتشفنا أن أهل هذه البلدة يعيشون في أساطير، ولهم عاداتهم الخاصة بهم، وأن الجبل المزعوم يعتبر بالنسبة لهم كمركز للعبادة المجوسية، وأن نار الجبل بمثابة روح الإله المبعوثة لهم من "أهورا مازدا" وأنها من كرامات الرسول "ذرادشت". وهذه البلدة يأتيها الناس من جميع الأقطار ليقيموا مراسم حجهم.
- نظرت إلى (شرف) وتبسمت، وقلت له:
- لقد وقعنا..
- توجهنا إلى بلدة أبشوزان، ومن هنا بدأت قصتي بل مغامرتي...
- حيث الزهور العرار والأقاحي، ودوار الشمس اليانع في مروجه، والسماء الزرقاء من تلك الأيام المطيرة التي يجود بها الشتاء لهذه الصحراء، والنسيم البارد كحامل الصفو والرقة، وأشواك العوسج التي تبسم فيها الزهر، والأشجار المتلألئة في بطن الأرض. يا له من منظرٍ يأخذ بالألباب! تبسمت في وجه (أشرف) وقلت له:
- أين الجبل؟ أتراه؟ ها هو ذا.
- وأشرت له نحو البحيرة..
- هو هذا الجبل الذي يتوسط شاطئ البحيرة لكن انظر إلى هؤلاء القوم يا لغرابة ملابسهم، وغرابة نسائهم! تحمل كل منهن قصعة فوق رؤوسهن كالفراشات، لا تعبئن بما تبدين للآخرين.
- حقًا يا (أحمد) إنه لشيء غريب!
- فقال لي (أشرف):
- علينا تجهيز مكان لوضع أوتاد الخيمة كما فعل باقي فريق العمل قبل دخول الليل..
- وبعدما وضعنا الخيمة في المكان المناسب أصبح الجبل قريبًا لنا كما لو كنا بأطرافه؛ دخلنا إلى الخيمة بعد تناولنا الغداء مع باقي الزملاء وقد اتفقنا أن نبدأ العمل في الصباح الباكر، وعلى الرغم أن الصحراء التي تمتد تحت ناظريه إلى الأفق المستدير إلا أنها ليست بفضاء فسيح؛ كانت تزدحم بالمارة والأبقار وبعض الطيور. ويبدو أيضًا أن البحيرة مملوءة بالأسماك. بعد استراحتنا بالخيمة وقد لاحت الشمس في ثوب الغروب خرجنا إلى البحيرة، وكاد المنظر يخطف قلوبنا بعد أن استلقينا على شاطئها الأرجواني المطعم بنسيم الليل.
- وفي طريقنا إلى الخيمة، وبعد أن أثقل النوم على عاتقنا أخذنا ندندن، ونتمايل كما لو كنا ثملين.
- مددت نظري لجوار الجبل وقد بدأ النهار كأنه يجوب صوب الركن الشمالي للجبل، هذا ما حسبته لكنه ليس كما ظننت، كان يجلس وجه مكتمل المحاسن، وكان نور الأصيل بعث في هذه الليلة الكحلاء. ما لأعين رأت ولا قلبًا شعر؛ كائن كأيقونة تتصدر عرش الكمالات كرحيق يتقطر من شهد رائق فوق محفات من لؤلؤ كما لو كانت الشمس فككته، عروق من ذهب إبريزي، قرنفلة بيضاء، زيتونة شرقية وغربية يجتمع تحت ملاءتها أشجار حنطة مقدسة، شعرها كسرب غزلان سابحة في محفات الليل، عيناها السوداوان حاملة ذؤابتا البرق فوق فصوص الياقوت الأسود، مشكاة يخرج منها السبع سموات، وثمانية أبواب لفردوس أرضي، مخبأة على ثياب من سندس وإستبرق، مزينة بالبنفسج والعسل واللبن، ساقاها كالبرق. وعلى مسمع ورؤيا من النجوم والقمر. أشهد أن كل علم يقف تحت راياتها وباسمها تنطق كل شفة، والطير ما انحرف عن سمائها الغاصة بالعنبر والمسك، وبحرها ينغمر بالزبد المدوخ..
- قلت (لأشرف):
- ماذا يفعل هذا القمر بعيونه الكهرمانية الأثيرة هنا؟
- فقال:
- علينا الرجوع إلى الخيمة، هيا يا (أحمد). فقلت له:
- كيف هبطت نحو الأرض؟ كيف هربت من الفراديس؟
- لم أشعر بنفسي إلا بعد أن قادني أشرف إلى خيمتنا، دام تفكيري في هذه الفتاة حتى بزوغ الفجر، تخيلت نفسي كأني أحدثها:
- أعرف أنكِ الأنثى التي اشتعلت أنوثتها أمام الوجود يا أغزر النساء معنى؛ أتيتك مسرعًا جامحًا فرحًا وأنتِ تطلين على الحواف كنجمة غير ضالة، كيف أفرق نفسي وأجمعها؟ وكيف لي أن أذوق الموت قبل أن أقضم من شفتيك تفاحة الميلاد؟ يا من تسكنين قاع العين ما عدت أبصر؛ فقد فرغ البصر إلا منكِ، ولا أحتاج إلا لكِ. ترى ما اسمك أيتها التوتة البرية؟ ما لون عينك أيتها الزهرة النرجسية؟ ماذا تقول عنك البحيرة يا بحوري الهائجة؟ يا صاحبة النعمة والصولجان، أرضك ملغومة بالزمرد، والحجر الكريم، أنتِ آخر من صنعته الأرض من الطين المبلل بعصائر الماس بعد أن سقى رأسي بالماء. هذا المراوغ (أشرف) هبط من سقف الحلم إلى الخيمة الكئيبة هذه...
- أول أيام العمل...
- الشمس اكتمل نورها كالعادة على هذه الأرض المليئة بخطوات تلك الجنية الملكة، الملاك، بدأ يومنا الأول للعمل. ذهبنا إلى الجبل حاملين المعدات اليدوية الخاصة بالتنقيب، وبعد أن تأكدنا أن الجبل خالٍ تمامًا من البشر، لكن حدث ما لا يحمد عقباه؛ اعترض طريقنا بعض الشيوخ الكاهلين منددين بما ننوي فعله وقال أحدهم:
- ماذا تفعلون؟ ومن أنتم؟
- قلت له:
- علينا الصعود إلى الجبل كي نعرف سبب اندلاع النار به.
- نظر إليّ بسخرية وقال:
- هذه النار نارنا المقدسة ولا نريد من أحد معرفة سببها، نحن نكتفي بمعرفتها نار آباءنا، وأجدادنا الأولين. اذهب أنت وفريقك حيث أتيتم.
- لكن يا سيدي، نحن مكلفون من قبل شركتنا لمعرفة معلومات عن هذه النار.
- وبعد حوار دام لأكثر من ساعتين قال لي بعدما أصبحت الأرض تعج بالبشر:
- هذا جبلنا وإذا وافقنا أن تفعلوا التخاريف التي جئتم من أجلها فلن يكون هذا إلا بعد انقضاء موسم الحج بعد أسبوع.
- أسبوع! هذا وقت كبير جدًا. بعد أسبوع!!
- هذا ما قاله الشيخ! شعرت وقتها أنا وزملائي من حماس هذا الشيخ وطريقة كلامه عن نار الجبل، وأنها ليست أسطورة بأن هؤلاء القوم عاقلون ونحن من نكون المجانين!
- يبدو أن هؤلاء القوم تتملك منهم عقيدة راسخة، هذا ما أكده لنا ذاك الرجل حين قال: "أننا سوف ننال غضب الرب إذا فعلنا بالجبل سوءًا!"
- ما العمل الآن يا رفاق؟
- ننتظر أسبوعًا ونعود إلى الفندق..
- كان إجماع الزملاء وأنا طبعا؛ أن ننتظر أسبوعًا، لكن دون أن نرجع إلى الفندق، هذا من حسن حظي طبعًا ما قلته لنفسي. أقنعت زملائي بأن نبقَ بالجبل هذا الأسبوع، وفي هذا الأسبوع يذهب كل يوم أحدنا إلى الفندق لإحضار الطعام لباقي الفريق.
- ارتضينا بالأمر الواقع بعد أن رأينا معاملة الناس لنا بطريقة جيدة. لكن ما شغل بالي أنهم يتكلمون العربية بشكل جيد على الرغم أن بينهم من يتحدث كالببغاء، والبعض لم نفهمهم!
- لكن هذا أمر طبيعي؛ هم من أقطار عدة، ولكل منهم لغته الخاصة.
- أصبح الأمر بالنسبة لي كيوم نجاحي؛ فتلك الفتاة الجميلة التي أسرت قلبي تسكن هنا، ولعل الصدفة تقودها إليّ، وإن لم تفعلها الصدفة سيفعله شغفي؛ سأبحث عنها حتى أجدها..
- بالفعل اعتزلت (أشرف) وباقي زملائي، وكنت أتهرب منهم كلما دعوني خاشيًا أن تمر هذه الفتاة فلا أراها.
- كنت كل ساعة تقريبًا أذهب حيث وجدتها أول مرة، وأعود دون فائدة؛ الأمر الذي دعاني أن اقترب أكثر من أهل البلدة؛ عساي أسمع عنها -ولو بالصدفة- كانت الدقائق تمر بطيئة، والأبطأ الساعات؛ وخشيت أن يمر أول يوم من الأسبوع دون أن أراها..
- في صباح اليوم التالي والشمس تصطدم بكل شيء تجعله مضطرمًا، جلست خارج الخيمة أتحدث مع (أشرف) لكن عقلي شارد بهذه الحسناء، وبدون أي بوادر وجدت نفسي في كهف غريب أسند رأسي على رجل (أشرف) وأنا محاط بأناس من حولي، وفي مقدمة هؤلاء الناس سيدة عجوز، عرفت بعدها أن اسمها (زيار العرافة) وجدتني مبلل الرأس، كما لو كان يتصبب من عرق هذه السيدة، كانت تصب فوق رأسي ماءً ممزوجًا بروائح ذكية. علمت أنني أصبت بضربة شمس أفقدتني الوعي؛ هذا ما جعلهم يأتون بي إلى هذه السيدة. قال لي (أشرف):
- إن هذه السيدة قائمة على علاج القوم، وهي التي أنقذت حياتك بعد أن صرخت وأنت بجواري، فاستجاب لي بعض المارين، وحملناك واتجهنا نحو هذه السيدة بعد أن أخبروني أنها سوف تعالجك.
- فنظرت نحو السيدة زيار، وقلت لها:
- شكرًا لكِ يا أمي.
- وأردت أن أعطيها بعض النقود لكنها رفضت، وقالت لي:
- أنت في مقام ابني.
- أشكرك ثانية..
- وعزمت للذهاب إلى الخيمة لكنها رفضت وقالت:
- عليك أن ترتاح عندي إلى أن تذهب الشمس.
- بعد أن انفض القوم من حولنا كانت السيدة أعدت لنا الخبز وبعضًا من العسل، وقالت لنا:
- تفضلا كلا.
- وقبل أن أضع في فمي لقمة واحدة سمعت صوت بكاء يتقارب من الكهف حتى أصبح داخله.
- قالت السيدة (زيار):
- أهلًا يا (راميل)، ما الذي يبكيكِ؟ هل مسك سوءٌ من أحد؟ أجيبيني!
- لا.
- صوت أشبه بحفيف الملائكة ضرب مسمعي حين قالت للسيدة: "لا". انتبهت واستدرت نحو الصوت..
- هذا شيء لا يصدق! أشرف أشرف، هذه هي الفتاة الحسناء، أيمكن أن تكون الصدفة سريعة هكذا؟ الحمد لله أنني رأيتها مجددًا.
- قلت للسيدة (زيار):
- إنني أسمع صوت بكاء، أهذه ابنتك؟
- قالت:
- لا، كأنها ابنتي.
- أتسمحين لي أن أتواجد معكما وأنتما تتحدثان؟
- تفضل يا بني، هذه (راميل) جارة لنا، آتية من إيران لإقامة الحج.
- فقلت:
- أهلًا (راميل).
- قلت هذا وأنا أكاد أسرع وأحتضنها، لكن كان (أشرف) يضرب رجله فوق رجلي حتى لا أتسرع..
- وهذا يا (راميل) (أحمد) يسكن بجوارنا.
- قالت (راميل):
- أهلًا..
- فقلت في نفسي: "الحمد لله، إنها تتحدث العربية." توجهت النظرات المتبادلة بيننا نحو الصمت، والحدقات الرحيمة يعلوها الماء، وتكحلت بيننا إشارة الصمت الجميل، كان بكاؤها كأرجوانة يعتلي الكحل هاماتها، وبدت الأرض كما لو كانت قد اغتسلت بغرائز أعضائها. جلست بعد أن ضمت ساقيها المحلان بالتمر والعنب، وخشخشة الخلاخيل تلقي على جسدي التحيات؛ تشتكي آلامها (لزيار) وأنا أجلس بجوار (زيار) أستمع لصوتها الأنثوي، وبعد سماعها تبين لي أنها لا تريد أن تتزوج ابن عمها (والي)، هذا ما فهمته حين اشتكت (لزيار)، وأن أمها وعمها سيجبرانها على الزواج، وحينئذ قالت لها (زيار):
- لا تخشي فلن يمسك سوء، ادعي ربنا أن يكشف عنك هذه الغمة.
- ذهبت (راميل) إلى خيمتها وهي مطمئنة بعض الشيء، ناوية الصلاة للرب كي يكشف عنها ما فيها؛ لكن سرعان ما تذكرت حلمها مع الشاب الأبيض حامل الثمرات، وقالت في نفسها: "كأنه هو ذاك الشاب الذي يجلس مع (زيار)!"
- ظلت (راميل) تفكر في هذا الشاب، وما له من مفاتن، وخصال نبيلة، انطلق حديث دافئ بين (راميل) وعقلها وجسدها فقالت وهي تشير إلى جثث الذاكرة أن تدخل مجال الرؤيا:
- أنا أقرب إليك منك، وأنت القريب لي، امنحني بهاء الماضي، وسأمنحك كمالات الحاضر؛ فأنا على بابك الملكي افترشت وأولت نفسي تأويل كلمتين صادقتين -فارس أحلامي- بيننا الحركة والسكون وما بينهم أنت امنحني السلام الخالص أمنحك خالص سلامي.. ماذا أفعل وأنا أحمل فراغي على ظهري؟ يضربني الوقت، يقتلني، لا أمكث في مكان، ولا أفتش لي عن مكان..
- فيما آنذاك...
- كنت قد بدأت أتعافى، والسيدة (زيار) على وشك أن تفك أسري، فقبل انطلق حديث بيني وبين (زيار) تخلله اسم (راميل)، فقلت للسيدة (زيار):
- كيف تعرفت عليها؟ أيتها السيدة المباركة؟
- فقالت:
- القلوب الطيبة سرعان ما تتحد يا (أحمد)، لكن إني أراك تهتم لأمر (راميل)! هي جميلة ورقيقة، أصبغت عليها الطبيعة نور قدسي..
- أنت محقة يا أمي (زيار)، هي فتاة محبوبة.
- يبدو أن الحديث توضأ بمياه من صنع (راميل) حتى بدأنا نتغنى بجمالها إلى أن قالت السيدة (زيار):
- ما خطبك؟ أتريد أن تعترف لي بشيء؟
- فقلت لها:
- إنني لأصدقك القول؛ هذه الفتاة تنزع عني ثياب الرقاد كما لو كانت دخلت ثوب التراتيل حيال قلبي!
- هل أنت متزوج يا (أحمد)؟
- لم أجب السيدة، ويبدو أنها قد فهمت أنني متزوج..
- فقالت لي: "الحب نصيب ورزق كالحياة الموت."
- ذهبت إلى خيمتي يصطحبني (أشرف) كالطفل الصغير وقال لي:
- يبدو أنها تميل لك، كما أنت تميل إليها..
- أتمنى أن يكون يا (أشرف).
- استيقظت (هايل) من نومها، واستدارت نحو (راميل) تحدثها دون أن تصغي (راميل) لأي حديث؛ مما جعل (هايل) تشد بعض خصال شعرها المسدول حتى انتبهت لها (راميل) وقالت:
- إنه يوم جميل يا عمتي، أنا سعيدة..
- فنظرت (هايل) إليها..
- أين كنتِ يا (راميل)؟
- ذهبت إلى السيدة (زيار) بعد أن تملك الحزن مني؛ جراء ما ينوي عمي فعله.
- وماذا عند (زيار) جعلك تعودين بهذا الفرح؟
- لقد وجدته، وجدته، شاب كالذي رأيته في أحلامي، في كل أحلامي، هو يا عمتي، هو.
- من هو يا (راميل)؟
- كان موجودًا عند السيدة (زيار) أثناء زيارتي لها. أدام النظر نحوي باستحياء وأنا توسمت فيه كمال الرجولة.
- قالت (هايل):
- يبدو أنكِ وقعتِ في غرامه! لكن هل هو من سكان القرية؟
- لا، لقد جاء هنا للعمل.
- إذن يا (راميل) احذري، احذري.
- قالت (راميل):
- أيًا كان الأمر لا تخافي عليّ.
- خلدتا إلى النوم بعد أن طال الحديث بينهما؛ حتى بعد أن استفاقتا استكملتا الحديث، حينئذ دخل (دروز) ووالدة (راميل) إلى الخيمة وكان الغضب ينصب منهما جمرات..
- اسمعي (راميل) لقد أتت ليلة أمس إلينا السيدة (زيار)، وطلبت منا ألا نزوجك من (والي)؛ فطردناها واستحلفنا لها ألا تتدخل بيننا.
- غضبت (راميل) وأسرعت في ارتداء ثيابها وذهبت إلى كهف السيدة (زيار) كي تتأسف لها جراء ما فعلاه عمها وأمها وفي الطريق التفت راميل إلى اليمين تنظر في غرابة حينما سمعت أحدهم يقول: "راميل، راميل."
- وجدتني أنا؛ فقالت وعينيها تملؤها الفرح:
- أحمد! أحمد!
- كنت أعلم أن راميل تخفي شيئًا عندما مدت يدها تسلم علي؛ هذا الشيء هو حبها لي، قد اعترفت، ومن قبل كنا وصلنا إلى كهف (زيار) وحينئذ وعلى مسمع ومرأى من (زيار)، صرخت راميل وقالت:
- أحبك.
- لم أقل لها شيئًا إذ وجدتني أحملها من الأرض وأنا أحتضنها، وألف بها حتى سقطنا إلى أسفل.
- حينها قالت (زيار):
- عليكما ألا تظهرا حبكما لحين ننهي أمر زواج والي منك يا راميل.
- فقلت وأنا مملوء بالثقة:
- سأحارب وأقاتل من أجلكِ يا (راميل).
- في بادئ الأمر كان يبدو أنني نسيت أمر زوجتي مريم، أو تناسيت!
- مر بنا الوقت حتى أظلم الكهف علينا لكن ليس ظلام لغروب شمس، أو انطفاء الشموع بل لشروق دخول (والي) وأبيه إلينا.
- وقال (دروز):
- ماذا تفعلين هنا؟ وما سبب مجيئك إلى هنا؟
- أجبته أنا وكنت وقتها أملك شجاعة جعلتني أصرخ في وجه (دروز) وولده:
- ما الذى أتى بكما إلى هنا؟ انطلقا إلى الخارج قبل أن أفقد عقلي.
- رد علي (والي) و قال:
- من أنت؟
- ويداه قد سبقت قوله محاولًا إسقاطي على الأرض؛ لكن تمكنت من ركله وطرحته خارج الكهف، حتى أخرج من جيبه سكينًا وحاول أن يطعنني بها! لولا تدخل أهل القرية، ومنعه بعد أن اجتمعوا حول الكهف..
- خرجت (راميل) مع عمها وهو يشد شعرها حتى وصلا إلى خيمته، وذهبت أنا إلى البحيرة بعد أن اعتذرت إلى السيدة (زيار).
- وصلت إلى شاطئ البحيرة يكسوني الغضب، ويستهويني الانتقام (لراميل) وتخليصها من هؤلاء. قد علم (أشرف) ما حدث عند السيدة (زيار)؛ فبحث عني حتى وجدني وقال:
- علينا الرجوع إلى بلدنا وترك العمل هنا؛ حتى لا نصاب بسوء.
- قلت (لأشرف):
- لا أترك هذه البلدة إلا ومعي (راميل).
- كيف لك وأنت متزوج؟ وتحب زوجتك؟
- لا أعلم يا (أشرف)، لا أعلم. لكني لا أترك (راميل) وأرحل. اسمعني يا (أشرف) جيدًا؛ لك أنت أن ترحل إذا أردت، لكن أنا فلا..
- لا يا (أحمد) نحن أصدقاء؛ ولن أتركك وحدك في هذه البلدة الغريبة.
- ذهبنا إلي خيمتنا وفي الطريق كان يجلس (والي) بجوار الجبل نظر نحونا وعيناه تكاد تنفجر من شدة الغيظ، نظرت إليه وكما لو كنت أرى إبليس.
- فيما كانت (راميل) قد ذهبت مع عمها، ولا أعلم ماذا حدث لها؟
- بعد دخولنا الخيمة شعرت أنني أرغب أن أحمل تراب الأرض وأعتصره بأسناني من شدة الغيظ، ولم أكن أرى غير الأسى في تلك الليلة الحزينة.. وبعدما كان هذا يعتريني جلست أمام الخيمة مثل عاطل عن العمل، أطارد القطط، وأنظم خطوات النمل المار فوق التراب.
- كنت أبصر الضوء وهو مجنح في قبة السماء كما لو كان يدلي بلسانه ويلوح بيديه ليكيدني...
- لا أتحمل كل هذا الهراء، لا بد من فعل شيء يمكنني من رؤية (راميل).
- يمر الوقت وأنا أعجز تمامًا عن فعل أي شيء يدلني عليها، حتى الوصول إلى خيمتها لا جدوى منه ولا يفيد..
- جاء النهار وأنا أواصل خيباتي التي لا تهدأ، جاءني (أشرف) وطلب مني أن نتمشى إلى البحيرة؛ وفي طريقنا سمعنا صوت السيدة (زيار) تنادي:
- انتظرا، انتظرا.
- فما كان لنا إلا رجعنا إليها، ودخلنا معها الكهف، وبعد أن قدمت لنا الإفطار قالت:
- اسمعني يا (أحمد) أنت تعلم أن (راميل) أحبتك، وأيضًا أنت. لكن! تعلم أيضًا أنها على غير دينك ولا تجوز لك؟
- فقلت لها:
- الحب أعماني عن هذا؛ لكن ألا يوجد حل؟
- فرد (أشرف):
- حتى إن وجد الحل أنت متزوج، فما بال زوجتك؟
- لا أعلم يا (أشرف) إنني أحببت (راميل) حبًا أعمى! ولا أعرف أيمكنني العيش بدونها أم لا؟
- قالت (زيار):
- أنت تفكرني بنفسي قبل أن أتزوج؛ فكنت لا أرى أحدًا ولا أسمع كلامًا من أحد حين أحببت زوجي؛ الأمر الذي كلفني أن أعاني ما أعانيه الآن.
- فقلت لها:
- وماذا تعانين الآن؟ قد علمت أن زوجك توفي وهذا أمر ليس بيد أحد..
- سكتت (زيار) عن الكلام لفترة ثم قالت:
- لا أعلم إن كان توفي زوجي الأول أم لا؟
- لا تعلمين؟ كيف؟ وأين هو؟ لم أرَ أحدًا يعيش معك هنا وما معنى زوجك الأول؟ هل لك زوج آخر؟
- نعم يا (أحمد) لا أعلم أين زوجي الأول؟ زوجي الثاني هو من توفي ومن بعده ابنتي الصغرى.
- ألك ابنة صغرى؟ ومن الابن الأكبر إذن؟
- ليس ابن يا (أحمد) بل ابنة، ولا أعلم أيضًا إن كانت تحيا أم لا!
- إذًا أين هي؟
- فقالت (زيار):
- أنت يا (أحمد) إنسان طيب سوف أحكي لك ما كنت عليه، لكن اعلم أنني لم أحكِ هذا لأحد قط فهو سر لا يعلمه أحد حتى أقرب الأقربين. كنت ابنة لرجل صالح يعمل في أحد القصور كأحد الخدم، توفيت والدتي وتركتني؛ وكان عمري خمس عشرة سنة حينها، كان والدي قد تخطى سن الخمسين وبدأت ملامح الشيب تضرب وجهه، وكان يعاني من بعض الأمراض؛ مما جعلته يترك العمل ويذهب إلى عمل آخر أقل جهدًا، وكان بيتنا يقع في بلدة (أردبيل) إحدى بلدات (إيران) العمل الآخر لوالدي هو صناعة الخبز؛ كنا نخبزه في بيتنا ونبيعه للأهالي. لم يستمر الوقت طويلًا وقد توفي والدي مما اضطرني إلى أن أعمل لوحدي طيلة خمسة سنوات بعدها طلب مني أحدهم الزواج، كان رجلًا صالحًا ذا أصل، ومكانة دينية رفيعة. قبلت طبعًا الزواج منه لأنه فرصة تتمنى أية فتاة أن تحظى بها؛ هذا الرجل كان يأتي إلينا كل عام ليتصدق ببعض المال لنا ولفقراء البلدة أجمعين، كنت لا أعلم أين يسكن ولا كيف يأتي بالمال؟ كان أشبه بمحقق الأحلام بالنسبة لي. تزوجنا ومن قبل قد اشترى لنا بيتًا يبعد عن بلدة (أردبيل) عشرات الكيلومترات. ذهبت معه بعد أن أصبحت أعيش بمفردي، وبعد الزواج رزقنا بابنة جميلة أسميناها (سياب)؛ كنا فرحين جدًا بها، لكن كان زوجي يأتي لنا يومًا بعد يوم ليطمئن علينا ويسد ما نحتاجه. لم يستمر الوقت طويلًا، ودقت طبول الأزمة الإيرانية والاتحاد السوفيتي مما جعل زوجي يخشى علينا؛ وطلب مني أن نرحل إلى دولة أذربيجان، وبالتحديد في هذا المكان الذي نجلس فيه الآن، لكنه بحكم عائلته ذات القيمة في بلدة (أردبيل) لم يرحل معنا؛ وبقي هو وعائلته ماكثين في منزلهم خصوصًا أن عائلته كانت لا تعلم بزواجه مني، وكان يتردد علينا كل حين ليسد ما نحتاجه، كان يزورنا كل شهر تقريبًا.. وذات يوم كان موسم الحج على مشارف الحضور فجاء زوجي وطلب مني أن نؤدي مناسك الحج لهذا العام، وبعدها نرحل إلى بلدتنا (أردبيل) لكنني رفضت كوني قد استقريت هنا والأهالي عرفتني، وأصبحوا كأخوتي؛ الأمر الذي استدعاه أن يغضب، لكن سرعان ما تفهم الأمر، وقال لي: "لا بأس، ابقيا هنا، وسوف أرعاكما كما كنت أفعل." وطلب أن يأخذ معه ابنتنا (سايب) إلى منزله، الذي لا أعلم أين يقع كي تعيش معه فترة شهر غيابه عني؛ فرحبت بالفكرة فهي ابنته كما هي ابنتي، وقلت له أن يرعاها كما أرعاها، فقال: "لا تخشي يا (زيار) سوف تكون بأمان." عاد زوجي إلى بلدته مصطحبًا معه ابنتنا بعد إتمام الحج. مرت الأيام وكنت أعدها بالثواني لحين يمر الشهر، لكن هذا الشهر أصبح أطول من عشرين عامًا. مر شهر تلو الآخر، والسنة تليها أخرى دون أن أعلم عنهما شيئًا! ذهبت لأكثر من مرة إلى بلدة (أردبيل) أبحث عنه وعن ابنتي؛ ولم أستدل عليهما، أخذت أسأل عنه الأهالي هنالك لا أحد يعلم عنه شيئًا! وسألت شيوخ الطريقة وأصحاب المقامات والحرس الطائف هنالك، سألت الحجر والرمال.. لا أحد يعلم عنه. لكنني رغم حزني على ابنتي، كنت في سكينة كونه رجلًا صالحًا؛ كنت متأكدة أنه لا يضيعها، وأكيد هي سوف تهنأ بعائلة أبيها لما لهم من جاه، وعزة.. ومرت السنون وأنا أعيش في هذا الكهف، أناجي ربي ليل ونهار عساه يردهما لي ذات يوم..
- نظرت إلى (زيار) بعد أن أصبح قلبي ينطنط داخلي من شدة الحزن على ما أصابها، وقلت لها:
- لكن لا أحد يعرف بأمر ابنتك الكبرى هنا في (أبشوزان)؟
- فقالت:
- مع مرور السنين تبدلت الأهالي وبعضهم نسى وبعضهم توفي..
- فقلت لها:
- لماذا يلقبونك (بالعرافة)؟
- قالت:
- الأهالي هنا يا بني أناس بسطاء يعيشون من أجل الطعام والشراب، وهذا الجبل، كنت أحاول تبسيط الأمور الصعبة عليهم فقط، كنت أعطيهم أملًا ليعيشوا يومهم دون إحباط. اللاتي لم ترزقن بمولود كنت أطيب خاطرها، وأعطيها أملًا دون أي شيء من المعرفة؛ تستمع إلى كلامي، وبعد فترة تأتيني بمولودها. واللاتي لم تتزوجن كنت أزينها، وأنحت وجهها بالكحل والإثمد؛ فتكون مطلوبة للزواج فتتزوج. وهكذا... حتى ذاع عني بأني أعرف ما لا يعرفون، ومن هنا جاء اسمي مقرونًا (بالعرافة)؛ هذه هي حياتي يا بني. (وراميل) بالنسبة لي رغم الوقت القصير الذي عرفتها فيه بمثابة ابنتي، كل شيء فيها يشبه ابنتي.
- حينذاك قد جن الليل علينا؛ فطلبت من السيدة (زيار) أن تأذن لنا بالرحيل؛ وذهبت أنا و(أشرف) إلى مبيتنا؛ أخذت أتمشى على الحصى وأسأله عن (راميل) وأرسم وجهها على جدران الكهوف، ومداخل الخيم. ومعي كتابها المفتوح أمام خطايا لا أقرأ فيه إلا اسمها..
- طلبت من (أشرف) أن يتركني ويذهب إلى الخيمة، وبعد رفض كثير منه تركني.
- أخذت أتمشى بين الأشجار حتى وصلت إلى شاطئ البحيرة
- عندئذ أرخيت قدماي إزاء صخرة كبيرة، جلست فوقها ووليت وجهي شطر البحيرة أنادي كل ذرة ماء بها باسم (راميل). حتى القمر ناديته باسمها.
- كنت أوسوس لنفسي بنفسي: "لم لما جئت إلى هنا كنت أهرب من حبي لأصادف حبي؟ أي منهما أحق بي؟ زوجتي وحبيبتي أم حبيبتي ونفسي؟ استصعب الأمر خيارًا. لمن ادعى بالأوردة؟ لمن أذهب؟"
- أخذت أتخيل (راميل) وأنا ممسك بصورة زوجتي، فسرق الهواء الصورة، وبقيت المخيلة (راميل، راميل، راميل)
- وكأن السماء أحنت علي بعباءتها الفضفاضة، وحققت لي ما تمنيته، (راميل) تمسك بقميصي وأظافرها تغتال صلبي، التقيت بها كلقاء الأم بمولودها الأول؛ كان الاشتياق أقوى من التصاق جسدين أصبح الزمن لا شيء، المكان لا مرئيات.
- احترقنا في رماد اللقاء وعلى جزيرة جسدنا ارتكبت كل الحواس، كنت أدفع الهواء أمامي كالطير المقدس، دحرجت الأرض تحتي كالكرة، حينذاك قالت (راميل):
- كم كنت أشتاق لك حين انسلخ بدني عن بدني، والآن عرف الجسد شكل توهجاته ومقاماته. أنت آخر ما نطقت الطبيعة بكمال الصبا.
- أنت في آخر منعطفات الشوق، الروح تقومين فيها.
· الأنشوطة الخامسة "امتثال"
· الحيرة..
- وبعد أن وصل بنا الشوق إلى طريق ضيق وحرج، خشينا الندم؛ فترجعنا إلى صوابنا. فقلت لها:
- لا بد أن نتزوج.
- فقالت:
- انتظر حتى أرجع إلى بلدتي، بعد أن أتم مناسك الحج، وبعدها نتزوج.
- وحين طلبت منها الزواج وقتها كنت قد نسيت بأنها (مجوسية) وديني يمنعني أن أتزوج من (مجوسية)، فنظرت إليها نظرة استعطاف، وقلت لها:
- أنت تعلمين مدى حبي لك رغم الفترة القصيرة التي تعارفنا فيها؛ لكن أنا مسلم وأنت مجوسية؛ ولا بد من أن تعتنقي الدين الإسلامي.
- قلت هذا، وبعدها رأيت شبحًا هائجًا يضرب كل أطراف جسدي
- وقالت:
- ماذا تقول؟ أنا لا أترك ديني ودين أجدادي. أنا ابنة (راسل) حفيد (رابيل) المبارك وقطب من أقطاب الديانة الزرادشتية، كيف لك أن تطلب مني هذا؟ اذهب إلى بلدك واتركني.
- فقلت لها:
- اسمعيني يا (راميل) الدين الإسلامي دين سماوي، وأنت تتبعين الضلال، أنت تعبدين النار وأنا أعبد من خلق النار..
- فقالت لي:
- ومن قال لك أن الدين المجوسي مقرون بعبادة النار؟ فقط النار لنا رمز ليس أكثر.
- طالما النار لكم مجرد رمز لماذا تأتون من جميع الأقطار لتزوروا جبلكم المزعوم وتقيموا فيه؟ بهذه السهولة يا (راميل)، أيمكنك أن تعيشي دوني؟
- (أحمد) مهما بلغت من حبي لك لن أترك ديني.
- فكان علي أن أنه اللقاء حتى لا تسير الأمور بيننا إلى طريق مسدود، فقلت لها:
- عليك الذهاب إلى الخيمة وسوف أنتظرك غدًا في الصباح عند السيدة (زيار) ونستكمل حديثنا.
- ذهب كل منا إلى خيمته، فيما كانت العمة (هايل) تجلس إلى جوار الجبل؛ فذهبت إليها وتحدثت معها، لكن لم أجرؤ على أن أقول لها ما قلته لابنة أخيها، وطلبت منها أن أتزوج من (راميل) ففرحت، وقالت:
- بعد إتمام مناسك الحج سوف نرجع إلى بلدتنا، فما عليك إلا أن تأتي وبعدها نبارك لكما الزواج، لكن علينا أولًا إقناع عمها.
- جاء الصبح وأشرقت الشمس كالعادة في ثوبها الذهبي، تضرب بأشعتها كل شيء تجعله يلمع، ذهبت إلى السيدة (زيار) وقصصت عليها ما حدث بيني وبين (راميل) فتعجبت وقالت لي:
- أقالت لك راميل أنها "من نسل مبارك"؟
- نعم هذا ما قالته.
- فقالت لي:
- أنت مخطئ يا (أحمد) أنت تطلب منها أن تترك دينها، وتتبع دينك، هذا أمر مستحيل.
- فقلت لها:
- كنت أعلم أنك سوف تغضبين مني كونك تتبعين نفس دينها.
- فقالت:
- اسمع يا أحمد، كما قلت لك من قبل: أنا كنت ابنة لرجل صالح وتزوجت من رجل أيضًا صالح. وأنهما كانا يتبعان الدين الزرادشتي، وأنا أيضًا أتبع هذا الدين، لكنني لم أقتنع بهذا الدين ولا أخفي عليك سرًا. أنا سمعت عن دينك الدين الإسلامي، لكنني لا أعتنقه حتى الآن لسبب غير معروف؛ لكنني أتمنى أن يكون لي دين توحيد، فأنا قابلت أناسًا كثيرين من كل الأديان وخصوصًا من الدين (الإسلامي). أتمنى أن أدخل في هذا الدين.
- شعرت أن قلبي قد ارتاح حين سمعت كلام السيدة (زيار)، وبدأت أشجعها في ذلك، وأهديتها مصحفًا كان معي، وبدأت تقرأ فيه. وبعد فترة دخلت علينا (راميل) مملوءة بالغضب الكاذب، كأنها تريد أن تقول: "اشتقت إليك" لكن شيئًا يمنعها، وبعد أن سلمت على (زيار) اتجهت خارج الكهف مسرعة بعد أن رأت (زيار) ممسكة بالمصحف، حاولت أن أتجه نحوها، وأمنعها من الخروج لكن السيدة (زيار) منعتني وقالت لي:
- اتركها يا (أحمد) سوف تعود ذات يوم.
- وكأنها نسيت أمر الحج بعد أيام؛ فبعدها سوف ترحل (راميل)، وقالت:
- لا تخشَ يا (أحمد) سوف تعود قبل انقضاء أيام الحج.
- فقلت لها:
- كيف تعود بعدما رأيت غاضبها هذا؟
- فقالت لي:
- ألم أقل لك من قبل أنني أملك شيئًا يجعل الناس يصدقوني! أنا متأكدة أنها ستعود.
- فقلت لها:
- لا عليكِ أيتها السيدة الطيبة، عليك الآن أن تحتفظي بهذا المصحف لحين إعطاءه (لراميل) لتقرأ فيه.
- تركت السيدة (زيار) ومضيت إلى طريق البحيرة حينها حدث شيء غير مألوف بالنسبة لي، وجدت ماء البحيرة يلمع كالفضة؛ فنظرت صوب السماء وجدتها كالمرآة تعكس الحجر والحصى، ودخان كثيف يخرج من فوهة عدم، ويتضرع بحركات طولية وعرضية؛ حتى رسم شكل امرأة. امرأة جميلة لكن لا أتذكر ملامح وجهها بالتحديد، كانت تضع فوق رأسها تاجًا من زمرد أخضر، وفيما كان هذا التاج يلمع في قبة السماء كنت أنا أحاول دعك عيني كي أتمكن من الرؤية، لكن سرعان ما غشي علي وسقطت على الأرض؛ ووجدت يدًا أشبه بيد (راميل) تطبطب على رأسي، وتحاول إفاقتي، وبعد فترة أظن أنها فترة قصيرة سمعت صوتًا جميلًا، يوشي بالدوحة كما لو كانت (راميل) هي صاحبة ذلك الصوت.
- وقال لي الصوت:
- هذا هو عرشي، اقبل. هيئت لك، اقبل.
- شعرت حينها أنني أقع في خيانة الحواس، أخذت أضرب يدي في الصخر عساي أكون في حلم، فوجدت بعدها دماء تسيل من أطراف أصابعي فتأكدت أنه ليس بحلم بل واقع.
- ثم قال لي الصوت ثانية:
- اتبعني إلى بلد ما، وكن كالشكل للمعنى، وادخل معي الحديقة، وأذن للصلاة معي في غبش الفجر، وافتح عينيك المغمضتين فأنا سأشرق عليك بنوافذي؛ فكن حيث الكاف في نورها القدسي، والنون نون نور.
- اذهب معي وفتش عن حياتك الأخرى، واكشف عن مدائنك غير المأهولة، وبوابات سماواتك السبع.
- بعد هذا أصبت بنوبة فزع، وصار جسدي يتصبب عرقًا، وأطرافي ترتعش؛ فأسرعت مهرولًا إلى الخيمة، وأيقظت (أشرف) من النوم وقصصت عليه ما حدث لي على البحيرة؛ فضحك وقال لي:
- يبدو أنك تعلقت (براميل) لدرجة أنك أصبحت تراها وتسمعها دون وجودها!
- فقلت له:
- لا يا (أشرف) أنا متأكد أنني كنت في واقع وليس تهيؤًا.
- إذًا علينا الذهاب البحيرة لكي أثبت لك يا (أحمد) أنها أوهام فقط.
- ذهبنا إلى البحيرة وكان كل شيء طبيعيًا جدًا، ولا يوجد أي أمر غير معقول؛ حتى السماء بطبيعتها، والبحيرة طبيعية. نظر أشرف نحوي وابتسم، وقال:
- عليك أن ترتاح اليوم، يبدو عليك الإرهاق.
- وفي طريقنا إلى الخيمة صرخت في وجه (أشرف) وقلت له وأنا ممسك بأطراف أصابعي:
- ماذا عن الدماء التي تنغمس فيها أطراف أصابعي؟ أهذا أيضًا وهم؟
- استغرب (أشرف) لكنه لم يبد أي اهتمام، ورجعنا إلى الخيمة، وخلدنا إلى النوم. وفي صباح اليوم التالي قبل أيام الحج بيومين كان علي إيجاد (راميل) لا أعرف ما تنوي أن تفعله، لكن عجزت عن مقابلتها وكأنها كمن لا وجود له؛ فيما كنت أبحث عنها كان أحدهم يمر بجوار الجبل، رجل ذو لحية بيضاء، وجهه كالضياء، ملابسه بيضاء، ممسكًا بإحدى يديه قربة مملوءة بالماء واليد الأخرى كوبًا فضيًا، وقال لي بعدما صب في الكوب من القربة:
- اشرب، اشرب.
- فشربت شربة ملهوفة وعجلة فلم أرتوِ..
- ونظرت إلى يدي فلم أجد الكوب، ولا وجود للعجوز، أدمت النظر إلى السماء..
- ما هذا الذي أنا فيه؟ أهذه تهيؤات أيضًا؟
- لم أدع لنفسي وقتًا لكي أفكر في أمور تبدو خرافية، غضضت النظر عما حدث وذهبت للناحية الشرقية للجبل قاصدًا ربوة محاطة بعمدان أشبه بالسياج المدببة. وضعت جسدي يتلاطم مع خضرتها، وأغمضت عيني؛ فرأيت ما رأيت، رأيت الرجل العجوز يأتيني ومعه الكوب الفضي وقال لي:
- أين هي؟ أين هي؟ فتقوم مقامي، وتسقيك من يديها، وتطعمك من عرقها طعام الجنة. أين هي التي إذا دخلت عليها بيتها حسبته لجة من قوارير وزمردات!
- فقلت له دون أن أنطق كأنني ولدت بدون فم:
- من هي يا عجوز؟
- فنظر إلي وغادر الربوة، وبعدها أطلقت لقدمي العنان واتجهت إلى (أشرف) صديقي لأحكي له ما حدث؛ فلم أجده.
- فيما كان هو يجتمع مع زملائنا لترتيب العمل في الجبل بعد الانتهاء من الحج، فدخلت إلى كهف السيدة (زيار) خائفًا أترقب وأتصبب عرقًا. فقالت لي:
- ما بك يا (أحمد)؟
- فقصصت عليها كل ما حدث لي، فتبسمت وقالت:
- أنت مجهد من التفكير في (راميل).
- أظن ذلك أيتها السيدة. لكن ما بال (راميل) ألم تأتِ عندك؟
- لا، لا يا بني لم تأتِ، وحاولت أن أقابلها بعد أن ذهبت إلى خيمتها فقالت لي عمتها (هايل): "(راميل) مجهدة جدًا ولا ترغب في مقابلة أحد." فلم أطل عليها وجئت إلى هنا.
- فقلت:
- وما العمل يا أمي؟
- لا أعلم يا بني، الحج بعد يومين، وبعدها سترحل (راميل) إلى بلدتها.
- ألا يوجد حل يا أمي كي نراها؟
- انتظر يا بني، يدبرها الله. لكن أنا أريد أن أتحدث معك يا (أحمد) في أمر أهم.
- تفضلي يا أمي.
- أنا قرأت الكتاب الذي أهديتني إياه، وأريد أن أدخل الدين الإسلامي..
- فرحت جدًا بهذا الخبر وقلت لها:
- رددي معي "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه. اللهم إني رضيت بك ربي وبالإسلام ديني، وبنبيك محمدًا رسولي."
- كان يومًا جميلًا في حياتي أنني كنت سببًا في إدخال أحد الدين الصحيح، وبما أن السيدة (زيار) أسلمت أكيد (راميل) ستفعل.
- تركت السيدة (زيار) في كهفها بعد أن علمتها كيف تؤدي الصلاة، وذهبت إلى الخيمة أنتظر يوم الحج حتى أرى (راميل).
- مر يوم والآخر وأشرقت شمس الصباح لليوم المنتظر، كان الأهالي يحتشدون حول الجبل بكثافة، وكنت أنا أنظر يمينًا ويسارًا، فوقًا وتحتًا عساي أراها. أصبحت رأسي تعمل كالطاحونة في جميع الاتجاهات؛ حتى بدا لي نورها يسطع أمام الحجاج كنور مهيأ ليفوق نور الشمس وأنا يقظ تمامًا، كنت أتحسس الحصى بقدمي، الحصى الذي بدا لي كجان يتحرك ذات اليمين وذات الشمال ويتقلب في الهواء كالبالون، ليس الحصى فقط بل كل شيء كان يتحرك دون ثبات في هذا الوقت وبدت الدنيا تغيم وتغيم، ويظلم النهار من أوله ثم وجدتني في منزلي بجوار زوجتي (مريم) وحولي الأقارب، والأصحاب ولا أتذكر ماذا حدث؟ إلا عندما زارني (أشرف)، وقال لي:
- حين صعدت (راميل) الجبل كنت أنت تراقبها وبمجرد ما وضعت شالها فوق رأسها لم أجدك بجاني! بل وجدتك تصعد الجبل وتمسك بشال (راميل) وتلوح به للحجاج، وتقول: "أنا مجوسي، أنا مجوسي." وأخذت تفعل كما يفعلون وأنت ممسكٌ بإحدى يديك الشال، وبالأخرى يد (راميل). وبعد فترة فيما الحجاج انتهوا من حجهم، جلست أنت و(راميل) أمام نار الجبل، وبدا عليكما الاندماج مع النار حتى ظهر (والى) وقام بأخذ (راميل) بعد أن تشاجرتما وألقى (والي) بحجر كبير فوق رأسك؛ الأمر الذي استدعانا أن نذهب إلى السيدة (زيار) كي تعالجك، وبعد أن تعالجت من جرحك كنت لا تعلم شيئًا عن أي شيء، كل شيء عندك كان اسمه (راميل) حتى أنا يا (أحمد) كنت تناديني باسم (راميل)! فكان لا يمكن أن أتركك في هذه الحالة. اعتذرت للزملاء وذهبت وحجزت تذاكر العودة إلى مصر.
- فقلت (لأشرف):
- وهل علمت زوجتي شيئًا؟
- نعم يا أحمد، علمت كل شيء.
- ولماذا قلت لها؟
- اسمعني يا (أحمد) كان لا بد أن تعلم زوجتك، فقد كنت تناديها هي أيضًا باسم (راميل) فكان علينا إخبارها حتى تقف بجانبك. أنت تمر بأزمة صحية ونفسية.
- كل هذا يا دكتور (أيوب) حدث لي، ومن ذلك الوقت قررت أن أتعالج؛ فجئت إلى هنا على الرغم أنني كنت ألتزم الصمت إلا أنني وجدتني أتحدث معك. قال لي:
- غدًا ستخرج وتعود إلى بيتك وعملك.
- لكن يا دكتور، أنت ما زلت أفكر (براميل) وأنا أحلم بها يوميًا. ماذا أفعل كي أنساها؟
- لا تفعل شيئًا، الأيام سوف تنسيك.
- أتمنى ذلك.
- دق باب الغرفة وكانا (زوجتي، وأشرف)
- حمدًا لله على سلامتك يا حبيبي.
- قالت هذا مريم وابتسمت ونظرت إلى (أشرف) وقالت:
- أرأيت صاحبك! كان يحب على حبي؟
- وضحكنا، ومر بنا اليوم بسلام؛ وأنا أنتظر الغد حتى أعود إلى حياتي الطبيعية..
· بداية المحنة أو محنة البداية
- جاء الغد سريعًا، وذهبت إلى منزلي مع زوجتي، وبعد حديث طال بيننا لأكثر من خمس ساعات ما بين حب، عتاب، لوم، حزن، وفرح.
- ذهبنا إلى النوم كنت قد نسيت أمر (راميل) أو تناسيت.
- لكن سهمها المقذوف في قلبي كالنصل المسموم كان أقوى من عقلي.
- بعد أن أخذتني سنة من النوم، وأنا على مشارف النوم حدث ما كنت أخشاه: رأيت مجددًا العجوز صاحب الكوب الفضي، وهمس بأذني وقال: "الميثاق بينك وبينها ماس مصفوف تحت قبة السماء، وفوق الأسرة البيضاء؛ دمك ودمها ممزوجان كالخيل المسومة، وحدائق البنفسج، ارجع إليها واكشف لها عنك فتنكشف أمامك، وتنكشف فيها؛ فتكشفا بين أبخرة الروح الصاعدة من عرق الجسد المقرون بالمودة والرحمة.
- فزعت من غفوتي وزوجتي فزعت لما سمعت صراخي وقالت:
- ماذا أصابك يا (أحمد)؟
- لا شيء، مجرد حلم. هيا نستكمل نومنا.
- نامت هي، وأظن عقلي نام معها وأصبح جسدي من يحركني حتى وجدتني دون أن تشعر زوجتي أرتدي ملابسي، وأخذت أحمل شنطة سفري التي لم تفرغ من أمتعتي! وذهبت إلى شركة طيران أنتظر حتى الصباح أمام أبوابها المغلقة، حتى وجدتني ممسكًا بتذكرة سفر إلى مطار (باكو) دون أدنى وعي مني..
· الأنشوطة السادسة "أردبيل والقلادة"
- وصلت إلى مطار (باكو) مجددًا لكن بمفردي هذه المرة..
- وتوجهت نحو قرية (أبشوزان) قاصدًا (جبل النار) مولي خطواتي شطر كهف السيدة (زيار) ودخلت إليها؛ فرحبت بي أشد ترحيب، وسألتها:
- أسافر الحجاج إلى بلادهم؟
- قالت:
- نعم كل رجع إلى حيث أتى، حتى ما تسكن داخلك رحلت أيضًا.
- لكن يا أمي أنا تعبت من فراقها، ولا يمكن العيش دونها، أنا أصبحت مجنونًا!
- قالت لي:
- من الأفضل لك أن تهتم ببيتك وزوجتك. ارجع إلى بلادك، وإلى حياتك.
- لا لا، لا يا أمي، لا أرحل دون (راميل).
- وكيف يا بني ستصل إليها؟ لقد رحلت، ولا أحد يعلم مسكنها.
- سوف أسافر إلى بلدة (أردبيل) وأبحث عنها في كل مكان، وسأجدها.
- أنت يا بني تبحث عن إنسانة في سراب، بلدة (أردبيل) كبيرة جدًا. "أنت تعلم أنني كنت أبحث فيها عن زوجي وابنتي طيلة عشرين عامًا ولم أهتدِ إليهم!"
- ولو! سوف أسافر وسوف أجدها، أنا ذاهب إليها الآن.
- انتظر يا (أحمد) أنت لا تعرف هذه البلدة؛ هذه بلدة كبيرة، وعدد سكنها كبير. اسمعني يا (أحمد) انتظر حتى الصباح، وسوف أرحل معك.
- أتتحدثين بجدية يا أمي؟
- نعم يا بني. عساي أجد ما كنت أبحث عنه أيضًا.
- سمعت كلام السيدة (زيار) وانتظرت حتى مطلع الصبح، ولم أنم نهائيًا. ظللت أنتظر موجهًا وجهي إلى باب الكهف، وتهيأ لي ما تهيأ، ورأيت ما رأيت، وسمعت ما سمعت. لقد اعتدت على هذا، إلا موقفًا بعينه حدث: رأيت صورة الدخان مجددًا، وهو يخرج من فوهة عدم في قبة السماء كما رأيته من قبل. لكن كيف؟ أنا مظلل بالكهف ولا سماء تظهر لي. كيف رأيتها؟ وصل الدخان الخارج من الفوهة إلى داخل الكهف والتف حول عنقي، وكاد أن يخنقني حتى صرخت فأتتني السيدة (زيار) ممسكة بكوب ماء سكبته في وجهي.
- وقالت:
- كنت تحلم يا (أحمد).
- لا، لا لم أكن أحلم؛ هذا واقع..
- كيف يا بني؟ يبدو أنك مرهقًا.
- لم أعقب. وخرجت أنا والسيدة (زيار) متوجهين إلى بلدة (أردبيل)، وصلنا البلدة حيث كل شيء جميل، كل شيء يحمل أنفاس (راميل). دخلنا إلى الأراضي الخصبة حيث النساء تفترشن شعورهن المزركشة بالبحر والليل، والصبايا يرتقن الأرض من شهوة النهار، يتراقص بين ضفائرهن البحر وشجر النجوم، يتلألأ بين أغصانه الليل والقصور الشامخة والبيوت الرحبة.
- كنا نسير حيث تسير أقدامنا، لا نعرف من أين نبدأ؟ وأين نبيت، وكيف نأكل؟ وليس لنا من صاحب ولا قريب..
- مر نصف اليوم ونحن في دائرة مغلقة. ندخل من مكان ونرجع إلى نفس المكان، دائرة انعدام الوزن. أنا أسأل عن (راميل) والسيدة (زيار) تسأل عن زوجها.
- ذهبنا إلى مسكن السيدة (زيار) القديم وقد أصبح كومة من التراب، ولا أحد يعرفها ولا لها أقارب أو جيران.
- كان علينا أن نجهز مكانًا للمبيت بعد أن بدأ الظلام يرفرف بأجنحته السوداء، ويعم أركان النهار.
- ذهبنا إلى جامع (الشيخ صفي الدين) حيث الرحب والاتساع
- وبتنا أمامه، كان هذا غير مألوف لي في بادئ الأمر؛ لكن رأيت كثيرًا من الناس تفعل هكذا، فبات الأمر لي طبيعيًا جدًا. نمت نوما عميقًا لم أذقه منذ أيام طوال.
- وفي الصباح أصبحت باحة الجامع مملوءة بالناس كما لو كان مولدا لأحد المباركين، لكن علمت أن هذا أمر طبيعي يحدث كل يوم؛ فهذا الجامع يتوسط سوقًا لبيع السجاد والأقمشة.
- بدأنا يومنا بكل حماس عازمين أن نجد ما نبحث عنه، وفجأة نظرت إلى السيدة (زيار) وأشرت إلى مدخل أحد المقاهي، وقالت لي:
- انظر، هذا هو (والي) ابن عم (راميل) يبدو أننا قد اهتدينا إلى مكانها.
- فقلت لها بعد أن تأكدت:
- نعم هو والي، هو.
- انتظرنا حتى خرج من الداخل وتبعنا خطواته إلى أن وصلنا إلى قصر عالي البناء، شامخ البنية، محاط بحدائق عالية والكثير من أسراب الطير تجنح من فوقه، وعلى بوابته يجلس اثنان من الحرس، لكن كانت جميع نوافذ القصر مغلقة تمامًا كما لو كانت لم تفتح من زمن.
- مكثنا في مكاننا إلى أن جن الليل، كنا نظن أن أحدهم سوف يخرج من بوابته أو حتى نافذة تفتح؛ لكن لم يحدث أيًا من ذلك. توجهت إلى الحرس لأسألهم عن صاحب القصر؛ فمنعوني ورفضوا الكلام معي.
- حاولت التلصص من فوق إحدى جدرانه العالية، فرأني أحد الخدم من الداخل. وأبلغ حرس البوابة والحرس الطائف في المدينة.
- أنا الخائف المترقب من كل شيء، وهذه الأرض لا تتسع لرقدتي، إذا ما أنا مت هنا، وليس لدي ما يعينني على الاحتمال، أنا أريد (راميل) ولا أريد أن أعود دونها.
- مدت يديها السيدة (زيار) وعطفت علي، وقالت:
- لا تحزن، سيدبرها الله.
- ونعم بالله.. لكن كيف وأنت ترين كل هذا؟
- سوف أدخل القصر يا (أحمد) بمفردي.
- سوف تفعلين؟
- نعم أفعل والله المستعان.
- اقتربت السيدة (زيار) من بوابة القصر، وبعد مدة فتحت بوابة القصر ودخلت وأنا أنتظرها في الخارج لأكثر من ساعة؛ حتى بدأت أقلق عليها. أخذت أسير ذات اليمين وذات الشمال حتى خرجت السيدة من بوابة القصر ووجهها ممتلئ بالسرور. وقالت:
- لقد قابلتها، قابلت (راميل).
- وبعد سماع هذا الخبر تغير كل وجداني، وأصبحت مسرورًا جدًا. وسألتها:
- كيف حالها، وهل هي ما زالت بجمالها؟
- قالت:
- انظر إلى أعلى القصر ناحية الشرفة الغربية؛ ستجد ما يسرك.
- نظرت نحو الشرفة، وكأن النهار ازداد نهارًا، (راميل) تشرق بنورها خلف الشرفة.
- قالت لي السيدة:
- علينا الرحيل الآن قبل أن يرانا أحد من أقارب (راميل).
- توجهنا ناحية حديقة تسمى (البدور) تبعد عن القصر دقائق معدودة، وبعد قليل جاءت (راميل) في ثوبها الأبيض، وشالها الوردي كملاك يتمشى بين جنات عدن، وذراعيها مفتوحة إلى عنان السماء. واقتربت مني، وألقت يديها تخر حول خصري، وتكحلت بشارة اللقاء الأبيض بكحل جسدنا، وتفككت السماء فوقنا ورمت طيورها بين أحضاننا، وكلما ابتعدنا التصقنا.
- قالت السيدة (زيار) بعد أن شعرت بالحرج جراء لقاءي مع (راميل):
- اذهبي يا (راميل) إلى بيتك ربما يشعر عمك أو أمك بغيابك.
- فقالت (راميل):
- نعم لا بد لي أن أذهب، لكن قبل لقد اتفقت مع عمتي (هايل) أن تستضيفكما في بيتها القريب من القصر، هو
- بيت صغير مهجور من بعد وفاة زوجها؛ لكن سيؤدي الغرض. وبعد أن أذهب إلى القصر ستأتي إليكما (هايل)؛ فاذهبا معها إلى بيتها.
- فقلت (لراميل):
- هل ستزوريننا؟
- نعم سأزوركما كل يوم قبل تعامد الشمس.
- جاءت (هايل) بالفعل واصطحبتنا إلى بيتها الصغير، وجهزت لنا مكانًا للنوم، وبعض الأطعمة.
- تلك ثاني ليلة لنا في مدينة (أردبيل) المدينة الساحرة حيث الليل فيها أشبه بليالي (القاهرة). كان علي النوم بأقصى درجة حتى يجئ الصبح وألقى حبيبتي. وفي الصباح ونحن ننتظر دخول (راميل) علينا في أي وقت، كانت السيدة (زيار) تمسك بالمصحف وتقرأ فيه، وتدعي ربنا أن يجمعها بزوجها وابنتهما "وكأن الله استجاب نصف دعوتها"
- سمعنا صوت نقر خارج الباب، وسمعنا صوت (راميل) يهمس لنا:
- افتحا، أنا (راميل).
- أسرعت وفتحت الباب..
- كل يوم تزدادين جمالًا على جمال..
- هكذا قابلت (راميل) بعد أن ارتمت في حضني. جلسنا مع السيدة (زيار) ولا نعرف ماذا نفعل؟ فطلبت من (راميل) الزواج للمرة الثانية، فقالت:
- أنسيت أمر أنني مجوسية أم أنك أصبحت مجوسي؟
- فقلت لها:
- لم أكن مجوسيًا، ولم أنس أنك هكذا. لكن السيدة (زيار) دخلت الدين الإسلامي، وهي من سوف تحببك في هذا الدين.
- نظرت (راميل) إلى (زيار) بعدما رمتني بنظرة حادة؛ وقالت لها:
- أنت يا أمي تركت (أهورامازدا) ودخلت في دين (أحمد)؟
- فقالت (زيار):
- يا ابنتي هذا ليس دين (أحمد) فقط، هذا دين الحق..
- قالت (راميل):
- أنا لا أترك دين أبي أبدًا..
- اشتد الأمر صعوبة، وبكت (راميل) بكاء الحيرة وتضرعت إلى السماء: "لماذا تركتني أيها الأب السماوي؟ يا إلهي مازدا أحتاجك. لست بخاطئة، ولا أبالي الغل، ما عرفت الشر أبدًا قدر ما عشت؛ دبرني أهورا. ألم أكن ابنة أحد المباركين من رسلك؟ أعني وسدد خطوتي، ولا تجعل الأسى يتدحرج بين خطواتي. كن لي كما أنت للماء والشجر، وكما عجنت جمالي بيدك المباركة، وعيني المخبأة تحت بقع الشمس؛ كنت أنت صانعها. كيف لي أن أتصرف؟
- أخذت السيدة (زيار) بعد سماع نحيب (راميل) تلاطف دموعها المنهمرة من عينيها بيديها، واحتضنتها، وقالت لها:
- لا تحزني يا ابنتي، لا تحزني...
- وفجأة صرخت (راميل) وقالت:
- القلادة القلادة!
- فقلت لها:
- ماذا تعنين بكلمة القلادة؟
- فقالت (راميل):
- أبي أعطاني هذه.
- وأمسكت بقلادة تضعها كحلية في رقبتها، وقالت:
- أبي (راسل) أعطاني هذه، وقال لي: "إذا ضاقت عليك الحياة، اكسري هذه القلادة ستجدين حياة أخرى."
- فأسرعت ومسكت منها القلادة، ووضعتها بين ضروسي، وكسرتها فوجدت فيها ورقة غريبة الشكل. فأمسكت بها (راميل) وقرأت ما فيها؛ وبعدها سقطت على الأرض؛ فأسرعت (زيار) وأفاقتها وظلت موجهة وجهها إلى سقف الغرفة في حالة ذهول؛ فأمسكت الورقة وقرأت ما فيها حتى كدت أنا أيضًا أن أرتمي على الأرض.
- ونظرت إلى (زيار) وقلت لها: "هذه (راميل)، هذه هي ابنتك التي تبحثين عنها."
- "اذهبي إلى بلدة أبشوزان واقصدي جبل النار؛ واسألي عن امرأة تدعى (زيار) فهي تسكن بكهف بجوار الجبل؛ إذا كانت تحيا فقولي لها أنك (سايب) ابنة راسل وابنتك، هذه هي أمك.
- وهي سوف تقص عليك الحكاية.
- ارتمت (راميل) (سايب) في حضن أمها، وقالت لها:
- لم أشعر أبدًا طوال حياتي بأن أمي أقصد زوجة أبي أنا أمي أبدًا رغم حنيتها علي لكن فعلًا الأمومة شعرت بها معكِ أنتِ من أول يوم، أنتِ أمي الحقيقية، وأنا ابنتك. احضنيني بقوة يا أمي، بقوة بقوة..
- مر الوقت سريعًا في جو من السعادة والاستغراب، حتى واصلنا حديثًا مجددًا.. قالت (زيار):
- الآن رد إلي ربي ما كنت أريده، الحمد لله على نعمة الإسلام، الحمد لله على عودة ابنتي إلى حضني. ونظرت هي إلي ابنتها وسألتها:
- أي اسم تحبين أن نناديكِ به؟
- فقالت ابنتها:
- (راميل) أنا أحب هذا الاسم.
- فقالت (راميل):
- سأذهب لإخبار العمة (هايل) لكن كيف أقابل زوجة أبي وعمي؟ أهم كانوا يعلمون أم لا؟ على كل حال أنا سأعلم إن كانوا يعلمون أم لا.
- ذهبت (راميل) إلى قصرها، وهي في غبطة تتمايل في الشارع كطفلة ليلة العيد، تشتم رائحة النسيم المارق في الجو.
- بعد دخولها القصر دخلت غرفة عمتها وقصت عليها ما حدث لها، لكن العمة لم تبدِ أي استغراب كونها كانت تعلم الحقيقة، الأمر الذي جعل (راميل) تحزن من عمتها، وأسرت هذا الحزن داخلها، لكن لم تسيطر على عينيها؛ فخرت الدموع أمام العمة، وراحت ترتمي في حضنها وتقول لها: "لمَ أخفيتِ عني هذا، أكنتم تعلمون؟"
- بعدما هدأت (راميل) صرحت إلى عمتها أن (أحمد) يريدها أن تدخل الدين الإسلامي كي يتمكن من زواجها. فردت (هايل):
- وما أنتِ فاعلة؟ أتدخلين دينه؟
- لا، لا يا عمتي أنا ابنة (راسل) المبارك، لكن ماذا أفعل؟ إني أحبه..
- فقالت (هايل):
- أتعلمين أن (أحمد) متزوج في بلاده؟
- يا عمتي لا يهم، إني أحبه وأمر زواجه من غيري ليس مهمًا.
- استمر الحديث في إطالة؛ حتى مطلع الفجر، وفيما كان (والي) يراقب (راميل) داخل القصر، وقد سمع حديثهما؛ فذهب إلى والده (دروز) وحكى كل شيء..
- فقال (دروز) لولده:
- لقد جاء إلى هنا هذا الشاب المغرور، لقد جاء لموته.
- وأمر حراس القصر بالذهاب إلى منزل (هايل) وإحضاري أنا و(زيار) بالقوة.
- دخلنا القصر وكان في استقبالنا (دروز) فأمر (زيار) بالذهاب إلى غرفة (راميل) بعد أن تأكد أنها والدتها، وأدخلني في غرفة كبيرة لكن مهجورة، وأمر أحد الخدم بالبقاء جانب باب الغرفة بعد أن أغلقها بالمفتاح.
- وبعد فترة سمعت صوت صراخ، وبكاء. تأكدت أنه صوت راميل تحاول إخراجي من الغرفة لكن عمها وما له من سلطة قوية قد أمر الخادمات بإبعادها عن الغرفة.
- مر أول يوم وأنا محبوس في هذه الغرفة، لا أرى أحدًا ولا أحد يراني. وفي الصباح دخل (والي) إليّ وقال لي:
- أنت شاب مغرور، ما الذي أتى بك إلى هنا؟ ومن أنت كي تحبك (راميل)؟
- قلت له:
- أنا أحب راميل منذ رأيتها في الجبل.
- فقال:
- (راميل) لن تتزوج غيري.
- ووضع يده بجانبه وأخرج سكينًا وكان يكاد يطعنني لولا دخول (دروز) ومنعه. وأخرجه خارج الغرفة بعد أن سقطت منه السكين والتقطتها أنا دون شعور أحدهم.
- وقال لي (دروز):
- أنا لن أقتلك، ولو فعلت هذا فمن حقي، أنت لص جئت إلى هنا لكي تسرقنا. لكن أنا لن أقتلك سأعطيك فرصة أخيرة بعد أن أفك أسرك. عليك أن تذهب إلى بلادك، ولا تعود إلى هنا مجددًا وإلا..
- قلت له:
- أعدك أن أرحل لكن أريد أن أقابل ابنك (والي) أولًا لأسأله لماذا كان يريد أن يقتلني؟
- أمر دروز (والي) بالحضور إلى الغرفة، وأنا لا أعلم من أين أتتني هذه الشجاعة حين أخرجت السكين ووضعتها جانب رقبة (والي) عند الحديث معه! وقلت ل (دروز):
- حياة ابنك مقابل مقابلة (راميل).
- فقال دروز:
- لا تفعل.
- ونادى على (راميل) فقلت:
- يا (راميل) أتذهبين معي إلى بلادي وهناك نتزوج؟
- فقالت:
- اذهب معك، لكن مع أمي أيضًا.
- حاول (والي) الإفلات مني أكثر من مرة لكن كنت محكمًا مسكته. جاءت (زيار) و(هايل) بعد أن طلبتهما (راميل) وأمرت بإحضار شنطة راميل، وفيها ما تحتاجه حتى نصل إلى مصر..
- بالفعل كل شيء حدث كما كنت أتمناه. خرجنا من القصر أنا و(راميل) و(زيار) و(هايل) بعد أن طلبت الرحيل معنا.
- بعد الخروج قالت لي (راميل):
- أنا لن أذهب معك إلى بلادك، إن كنت تريد أن تتزوجني تزوجني هنا، أنا لن أترك بلادي أبدًا.
- لكن يا (راميل) عملي هناك وحياتي!
- وزوجتك أيضًا هناك يا (أحمد)، أنا أعلم أنك متزوجٌ. إن كان عليك الزواج مني فلا بد من أن نبقى هنا على الأقل لحين تمهيد نفسي للرحيل.
- فقلت:
- أين نسكن؟ نحن أربعة أفراد. وكيف نعيش وأنا لا أملك عملًا هنا؟
- فردت (زيار) وقالت:
- يوجد حل وسط، هو أن نذهب إلى (أبشوزان) ونعيش في كهفي بالجبل.
- رحبنا جميعًا بالفكرة خاصّةً لأنني عشت من قبل هناك وكنت أعرف كيف أدبر أموري. والأكل والشرب هناك ليس بصعب حيث البحيرة والأشجار.
- ذهبنا إلى الجبل، ودخلنا إلى الكهف. وكان علينا ترتيب الأمور الخاصة بالزواج، لكن ظلت عقبة الديانة أمامنا كأمر مسلم به، هي ترفض دخول الإسلام وأنا طبعًا لا أفكر في ترك ديني حتى الزواج وكل منا يبقى على دينه.. لكنه أمر محرمٌ أيضًا كون (راميل) ليست صاحبة دين سماوي.
- جاء صباح أول يوم لنا في الكهف بعدما نمنا جميعًا داخله، واستلقيت بجانب الباب آخر الكهف.
- أفاقت (راميل) من نومها وأشرقت كالصبح تضيئ الكهف بنورها الطال. وجلسنا خارج الكهف حتى وجدنا أنفسنا نتجه إلى البحيرة، وهنالك عند الربوة تذكرت صورة العجوز صاحب الكوب، وكأنه جاء مجددًا وهمس لي قائلًا:
- انزع عنك ثوب الرقاد، وافتح محرابها المقدس أمامك، كل الخيرات مخبأة في قميصها؛ هي أرض بالغة الخضرة والورد.
- انتفضت بسرعة وقلت: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"
- فنظرت إلي (راميل) وقالت:
- ما بك يا أحمد؟
- لا شيء، لا شيء.
- فارتمت في حضني وقالت:
- هذا فضاؤك؛ فلتدخل الآن محراب النور، إني أراك متعطشًا وأنا أيضًا ظمآنة لرحيق يتصبب من كأس زبدك، وأنا وردة يانعة في حديقة الرغبة. أليس لديك رغبة في البوح ولو لمرة واحدة؟ أليس لي عليك سلطان؟
- لم أحدثها قط، بل جسدي من رد عليها، حين سافرت بيدي بين ثنايا جلدها، ورائحته التي تشبه الحجر الكريم، وشعرها المنفرج على أيقونة الجسد الناعم، وعناقيد الرغبة المختبئة بين شفتيها الكرزيتين. هذا على الأقل ما يمكن أن أقصه... جاء الليل علينا ونحن نرتمي بين أحضان الأشواق والحب حتى أصبحنا بلا زمن، وبلا وقت.
- حاولت بعدها إقناعها بالزواج على الدين الإسلامي، لكن لا جدوى؛ وكأنني أسير في متاهة لا تصغي أبدًا.
- رجعنا إلى الكهف نجري في الطريق، ونلعب كالأطفال، ونصطاد الفراشات..
· الأنشوطة السابعة "ميتافيزيقيا العرف"
· بخور العجائز..
- بعد دخولنا إلى الكهف كنت أحتاج إلى أن أنام من شدة الإرهاق فطلبت من السيدة (زيار) أن أدخل لآخر الكهف مكان مبيتهن، وأنام وقتًا قصيرًا حتى يأتين؛ وينمن سوف أخرج إلى باب الكهف.
- يشاء القدر أن أنام مكان (راميل) دون أن أعلم، عرفت هذا حين شممت رائحة جسدها النفاذة تضرب الأرض التي أنام فوقها. نمت نومًا عميقًا، لكن سرعان ما فزعت حين تذكرت زوجتي وما فعلت بها!
- ذهبت إلى الخارج فكانت الأرض مخبأة تحت شمس النهار.
- نظرت إلى الجبل وجليساته الثلاثة (زيار، راميل، هايل) وجدتهن يضحكن، ويتناولن بعض الشاي. ذهبت إلى هناك وجلست معهن وبدأنا نضحك كلنا؛ حتى سقطت من بين أيدينا (راميل) بعدما استدارت بها الأرض.
- أدخلناها إلى الكهف وحاولت السيدة (زيار) إفاقتها، لكن الأمر ازداد صعوبة حين وجدناها تتمتم بكلمات غريبة، لا أفهمها!
- لكن (زيار وهايل) تكلمتا معها بنفس التمتمة، وأنا لا أفهم شيئًا مطلقًا.
- كنت أحاول أن أسأل عما تقوله (راميل) فلم يجبنِ أحد لانشغالهما بإفاقة (راميل).
- وبعد وقت ردت (زيار) وقالت:
- (راميل) كانت تتلو بعض آيات الأفيستا المقدسة ل (زرادشت)، لم أتعجب وحاولت أن أفهم ما الذي قالته بالضبط: "لم يكن هناك أحد ليبكي علي؛ فقط جراحي التي تتصاعد إلى السموات كالنصل وترجع إلي كما هي فتضربني في قلبي. ألم تكن أنت الرحيم ومشيئتك الرحمة أيها الصادق وخالق العالم الدنيوي، الذي يجلب النار إلى المكان الملائم؟ أيها الصادق وخالق الماء، أعني وطمئن قلبي.."
- فقلت (لزيار):
- يبدو أن (راميل) تعاني من هم نفسي أصابها!
- فقالت:
- نعم يا (أحمد) تعاني من تعب، وأنت هو التعب؛ فهي تحبك، ولا تريد تغيير دينها.
- كانت أنفاس (راميل) تتردد مضطربة بادئ الأمر، ثم بدأت تستقر؛ شعرت وقتها أنني السبب، فوضعت يدي فوق رأسها، فبدت يدي غريبة لها، فاستدرت ودفنت وجهي بين رجلي، وهي تنظر إلى (زيار) وتقول لها:
- أعلمتِ يا أمي ماذا فعل أحمد بي؟
- لقد رأى واحدة أخرى غيري وأحبها، أيرضيكِ يا أمي؟
- فقالت (زيار):
- أحمد يحبك أنتِ يا (راميل).
- فقالت (راميل):
- نعم هي اسمها (راميل)، سمعته ينادي باسمها!
- استغربنا لحديثها، وقالت (هايل):
- أنتِ (راميل) لا غيرك.
- لا أنا اسمي (مريم).
- فقلنا جميعًا في صوت واحد: "(مريم)!" ونظرت إلي (زيار) وقالت:
- ما خطب (راميل) يا (أحمد)؟
- لا أعلم يبدو أنها مجهدة.
- حينها قامت (راميل) وألقت بشعرها المسدول على كتفيها، ونظرت إلي وفي نبرة رقيقة جدًا قالت لي:
- ألم أكن أنا أجمل من (راميل)؟ ألم ترَ في جسدي شواهد الاحتضار للأنوثة اللينة؟ ألا ترى صدري يتدلى ناحية الورود؟ ألا أبدو أجمل منها وما بال ساقاي البيضاوان! ألا تراهما ألمع من الفضة؟ وفستقة أصابعي، أما فيها ما يعجبك؟ وشفتاي الكرزية، أكان طعمها آسنا ومرًا؟
- وفي حالة من الذهول ضربنا بكفينا ببعض، وقلنا: "هذا أمر عجيب!"
- أخذت (راميل) تتراقص وتتمايل، وتغني، وتتجمل في جسدها، وكأن لا يوجد أحد معها. حاولت أن أقترب منها لكنها تمانعت وأدارت وجهها، وقالت دون أن تنظر إليّ:
- اذهب إلى راميل علها تنفعك.
- كان الأمر أشبه بالمثل "شر البلية ما يضحك".
- قلت (لزيار):
- ماذا نفعل الآن لقد أصبحت (راميل) تسمي نفسها (مريم)، وكل ما أخشاه، ألا تكون تمزح.. ما العمل، ماذا نفعل؟ أنتركها؟
- قالت (هايل):
- يمكن أن يكون قد مسها (شيطان)! ما رأيكِ يا (زيار) أن نبخرها ببذور (الماهوجني) التي الشيطان يخشاها؟
- ومن أين نأتي بهذه البذور؟
- ردت (هايل):
- أحمد يذهب إلى بلدة (خردلان) القريبة ويقوم بإحضاره.
- بالفعل ذهبت وأحضرت بذور (الماهوجني) المزعومة ربما تفيد في شيء! (في الغالب أنا أعيش مع مجانين).
- بعد أن أحضرت البذور وقمنا بطحنها، وذهبنا إلى الجبل وأحضرنا قطعة حصى ملتهبة يكاد لونها يميل إلى الأحمر القاني. أجلسنا (راميل) على ظهرها، أخذت (زيار وهايل) تتمايلان حول جسدها ممسكتين البخور بعد أن عبئ الكهف، وتنفخان دخانه حولها، حتى صرخت (راميل) وقالت: "أنا أختنق، كفاكم دخانًا."
- نظرت (هايل) إلى (زيار) قالت لها: "يبدو أنها تتعافى"
- وأنا أنظر إليهم وأكتم ضحكتي، وأضرب كفًا بكف. لأكثر من ثلاث ساعات دون فائدة. (زيار وهايل) مقتنعتين أن هذا هو العلاج، وفيما (راميل) حالتها تزداد سوءًا، فقد بدأت ترسم صورة لعشيقتي ومن المفترض أنها (هي) وتقول: "أنتِ يا (راميل) أيتها المجوسية المتلفعة بجسد الأفعى!" وهي ممسكة ببعض الخشب المدبب، تحاول خرق عين عشيقتي، وتقول: "أنتِ لم تنتصري علي."
- وجاء ميعاد جلسة البخور؛ كأنها جرعة دواء كل ثماني ساعات..
- استمر الوضع لمدة يومين ولا جدوى من البخور، ولا أمل في إرجاع (راميل) ل(راميل)..
- وفي اليوم الثالث بعد أن خاب سر بخور العجائز، قلت (لزيار وهايل):
- سوف أصطحب (راميل) إلى مصر؛ فأنا لي صديق يدعى دكتور(أيوب) طبيب نفسي، عساه يعالجها!
- (زيار وهايل) لا حول لهما ولا قوة..
- افعل ما تراه صوابًا يا بني.
- كان علي أن أحضر بعض الأوراق (لراميل) فأخذت أفتش في حقيبتها، وجدت جواز سفرها، وذهبت إلى (باكو) وحجزت تذاكر السفر لي و(لراميل)، و(هايل وزيار) تنتظران في الجبل...
· الأنشوطة الثامنة "الصحو والمحو"
· عيادة الدكتور أيوب..
- بعدما وصلنا إلى مطار القاهرة ليلًا، اتصلت (بأشرف) صديقي وحكيت له ما حدث، وطلبت منه تدبير مسكن لنا لأيام معدودة. ويبدو أنني نسيت أمر زوجتي!
- بعد أن جهز (أشرف) المسكن بتنا ليلتنا فيه، لكن كانت (راميل) غير (راميل) تعاملت معي كما لو كنت أخاها، حتى أني لم أحاول أن أتحدث معها، كانت مشغولة في التأمل بجسدها الفتان، وتنظر إلى المرآة وتقول: "أنا أجمل من (راميل)، أنا أجمل."
- ذهبنا إلى العيادة، وراميل لا تعلم لم أتينا هنا؟ وبعد أن قابلنا الدكتور (أيوب) وقد تفهم الوضع؛ تعامل مع (راميل) كما لو كان يعامل طفلة صغيرة؛ وفي نهاية الجلسة قال لي أنها مصابة باضطراب الهوية الفصامية، وأن هذا مرض سرعان ما ينتهي.
- وقال لي:
- عليك أن تعاملها برفق، وأن تطاوعها في كل شيء هذه الفترة حتى لو كان هذا الشيء هو اسم (مريم).
- استغربت لكلام الطبيب وقلت له:
- معنى كلامك أني أعاملها كزوجتي؟
- نعم عليك أن تعاملها كزوجتك لفترة أظن أنها لن تطيل.
- وكتب لي بعض الأدوية.
- ذهبنا إلى المسكن ودخلنا إلى غرفة المعيشة، وقلت (لراميل):
- حبيبتي (مريم) تعالي نجلس في الشرفة.
- وقبل أن ترد بأي كلمة نظرت إلي وتبسمت، ودخلت معي الشرفة.
- قالت لي:
- كيف يا (أحمد) بعد كل الحب بيننا تحب واحدة مثل (راميل) هذه؟ هل قصرت معك في شيء؟
- لم أكن أستطيع الرد، لكن تذكرت كلام الطبيب، وسرعان ما قلت:
- عذرًا يا حبيبتي كانت مجرد غلطة، ولن أفعلها مرة أخرى.
- لكن يا (أحمد) أنت جرحتني في مشاعري، ولن أصف لك ثانيةً.
- سامحيني يا (مريم) ولا عليكِ، لن أتركك مرة أخرى.
- استمر الحديث بيننا طويلًا حتى ضربتني على وجهي، وأسرعت إلى غرفة النوم وأغلقت الباب عليها كوني قلت لها دون أن أقصد: "يا (راميل)."
- لأكثر من نصف يوم أحاول إرضاءها، وتمكنت من أن أجعلها تخرج من الغرفة؛ لتتناول معي الطعام ثم ذهبت إلى الغرفة مجددًا. وكان عليّ الذهاب إلى زوجتي (مريم) لأصلح ما فعلته، وبعد خروجي من المسكن بعد أن أمنت (راميل) بعدم الخروج، وقلت لها أنني ذاهب إلى العمل ولن أغيب عليها.
- لم تسر الأمور بسلام حين دخلت منزلي وجدته خاويًا لا نفس فيه، عرفت أن مريم غاضبة في بيت أهلها.
- ذهبت إلى منزل أبيها، وبعد عتاب طويل ولوم أطول تمكنت من مقابلة زوجتي (مريم) وشرحت لها بعض الشيء عن غيابي وأكيد كذبت عليها..
- قلت لها أنني كنت أسير بالسيارة ومن قبل كنت أخذت جرعة زائدة من الأدوية التي كتبها لي الطبيب (أيوب) فاصطدمت بأحدهم، وغشى علي، وفقدت الذاكرة وكنت نسيت أوراقي في المشفى؛ فمكثت عند أحد الأشخاص حتى تمكنت في استرجاع عقلي..
- بالتأكيد أعلم أن (مريم) لا تصدق حرفًا واحدًا مما أقول لكن رفضت (مريم) العودة معي إلى المنزل، وقالت لي: "اتركني يومين وسأعود معك." هذا بالفعل أسعدني فعلي أن أدبر أمر (راميل) أولًا. ذهبت إلى مسكني مع (راميل) ودخلت إلى البيت، ووجدت (راميل) كما تركتها لم تتحرك من مكانها.
- الحمد لله لا مصائب جديدة اليوم.
- جلست في الصالة أكلم الحوائط وفجأة سمعت صوت خروشة قوية يأتي من غرفة (راميل)؛ توجهت مسرعًا وفتحت باب الغرفة وصدمت لما رأيت (راميل) ممسكة بأسفل بطنها وكأنها تكلم أحدًا، وتقول: "يكفي لقد أتعبتني، هيا نَم قبل أن أنادي أباك."
- ما بكِ يا (راميل)، ما بكِ؟
- فقالت:
- ابنك لا يريدني أن أنام، كلما أجلس يضربني في بطني.
- بالتأكيد كنت في غيبوبة، قلت لها:
- ابني أنا؟ أين هو؟
- فأشارت نحو بطنها وقالت:
- أنا حامل يا (أحمد).
- نظرت إلى بطنها ووجدتها منتفخة كأنها كما قالت؛ فوقعت على الأرض بعدما رأيتها لا تمسك ببطنها، بل كانت ممسكة بوسادة تضعها أسفل ملابسها!
- فتذكرت كلام الطبيب، وقلت لها:
- لا بأس حبيبتي استريحي أنتِ على وشك الولاد..
- اتصلت على الفور بالدكتور (أيوب)، فقال لي بعدما أعلمته بما حدث: "لا بد أن تطاوعها حتى يبدأ العلاج في مفعوله."
- جاء الصباح وجاءتني (راميل) إلى الصالة وقالت:
- صباح الخير حبيبي (أحمد).
- صباح الخير حبيبتي (مريم).
- هل من الممكن أن أطلب منك أن تحكِ عن مدى حبك لي!
- بكل سرور حبيبتي؛ أنا أحبك منذ كنا ندرس في الجامعة ولم أحب غيرك، ولن أحب بعدك. أنت كل شيء في حياتي.
- فقالت:
- أنت تكذب لأنك أحببت (راميل) التي التقيت بها في سفرك.
- فقلت لها بعد أن قررت أن أسمع كلام الطبيب:
- لا لا أحبها هي فقط كانت في حياتي مجرد تسلية، مجرد نزوة.
- لكن أنت قلت (لأشرف) صديقك عكس ذلك!
- لا يا حبيبتي أنا لا أحب غيرك.
- وطلبت مني أن أعيد ذكرياتنا قبل الزواج بحجة أنها تريد أن تستمع لهذا مني؛ حكيت لها كل شيء منذ أن رأيتها إلى الزواج، وحاولت بعدها أن أقترب منها وأفعل كما كنا نفعل في الجبل لكنها رفضت رفضًا تامًا.. وقالت لي: "لا أنا على وشك الولادة."
- فقلت في نفسي: "يبدو أنها مقتنعة أنها حامل! الخوف ألا أقتنع أنا بهذا.."
- طلبت مني بعدها أن اصطحبها إلى أحد المطاعم كي تستمتع معي بعض الوقت، خرجنا إلى أحد المطاعم وبعد تناول الطعام، قالت لي:
- احكِ لي عن تلك الفتاة التي قابلتها في سفرك.
- أتقصدين (راميل)؟
- نعم هي.
- قلت لها:
- إنها كانت مجرد وهم في حياتي، لكن سأحكي لكِ عن بعض الأحداث التي دارت بيني وبينها (بالتأكيد أنا أقول هذا حتى أطيعها فقط). حين تعرفت عليها، طلبت مني أن أذهب معها ليلًا إلى الجبل، وفي الطريق أخرجت من حقيبتها بعض الحلوى وأعطتني منها، وفي طريقنا أصبحت وكأنني شخص آخر غير (أحمد).
- بدأنا نلعب كالأطفال ونسينا أمر من معنا، حتى جلسنا إلى الأرض وفي صوت ناعم قالت لي: "الآن جاء موعد الورد اليومي." أخرجت من الحقيبة كتابًا شكله غريب، وبدأت تقرأ فيه (هذا الكتاب هو كتابهم المقدس؛ قد علمت منها بعد ذلك).
- ولم أقابلها ثانية، وكل الذي مررت به كان حلما أو تهيؤات!
- فقالت:
- معنى كلامك أنك لا تحب (راميل) وأنك تحب (مريم).
- فقلت لها:
- طبعًا حبيبتي أنا أحب (مريم).
- قلت هذا خشية ألا أنفذ كلام الطبيب، وتصاب (راميل) ببعض التوتر، لكن ليتني قلت الحقيقة وما كذبت!
- فجأة قامت (راميل) وأمسكت بيديها فنجان قهوة، وألقت به في وجهي.. وقالت لي:
- أنا (راميل) ولن أكون غير (راميل)، اذهب إلى حبيبة القلب، ودعها تكفلك.
- صدمت لفترة وقلت لها:
- حقا أنتِ مجوسية ابنة مجوسية..
- اختفت من أمامي ولا أعلم أين هي الآن! لأكثر من ثلاثة شهور وأنا في حالة شرود...
- hg
- b