بسم الله الرحمن الرحيم
القصة مستوحاة من أحداث حقيقية
في الأول كان الموضوع صعب ومعقد، من الناحية العملية والنفسية، صحيح أنا كنت بحلم بطب من قبل ما أدخل ثانوي، وكنت بدرس بشغف حقيقي، إنما ده مش كفاية...
الشغف مش كفاية عشان يسهل الدراسة ويمهد للجانب الإنساني، كان مجرد ضفدع، ضفدع محطوط قدامي على الطرابيزة، المفروض أمسك المشرط وأمرره عليه، عملية بسيطة جدًا، ومع ذلك...
إيديا فضلت تترعش، مش قادر أمسك المشرط، بفكر في اللي هيحصل بعد كده...
أنا بكده بأذي كائن حي، تمريرة المشرط هتخلي جسمه يتقسم نصين وهينزف، منظر الدم، هل أنا هستحمل منظر الدم؟
وبعدين...بعد الضفدع، هل أنا قد المسؤولية دي؟
معقول همسك مشرط ومقص أو هكتب علاج لمرضى، لبني آدمين من لحم ودم؟
طب لو غلطت؟ لو اتسببت في تدهور حالة أو الأوحش، موت مريض؟ ويكونوا أدوني ثقتهم وحطوا فيا عشمهم، لأ، لأ، أنا مش قادر، مش عايز...
لكن سبحان الله وبرغم كل الأفكار اللي كانت بتهاجمني والمخاوف اللي بتحرمني من النوم والأكل، مرة في مرة الوضع بقى أسهل، بقى مجرد روتين، مش بس ضفادع وحيوانات، بقيت أطلب دليفري أنا وزمايلي وناكل السندويتش ونوقع منه كمان وإحنا قدام جثة مفرودة قصادنا والمفروض نشرحها، ولا المرضى اللي كنا بندرس عليهم تحت إشراف الدكتور المختص وكإننا بنتعامل مع عروسة قماش...
وبكده الموضوع بقى روتيني، المرضى بالنسبة لي كإنه جماد، جزء من الروتين اليومي، بقنع نفسي إني حتى لو طبقت يومين ورا بعض، حتى لو أخدت شيفت على شيفت، في الآخر الدوام هيخلص وهرجع أنام وأعيش حياتي في الكام ساعة اللي باخدهم أجازة...
لكن بعد سنين رجعت تاني، بطني مش بتتقلب من منظر الدم ولا الجروح، لكن في حالات بتأثر بيها، أطفال وكبار في السن أو حتى شباب بيبقوا بالنسبة لي مش مجرد حالات والسلام، برتبط بيهم غصب عني عاطفيًا، وببقى عايز أعالجهم بأي طريقة، وبكتئب لما بيحصل أي تعقيدات وحالتهم تسوء...
الموضوع حقيقي كان مجهد ومتلف للأعصاب، لكن كل اللي فات كوم والمرحلة إياها كانت كوم تاني...
في يوم عملت عملية روتينية جدًا لحالة، فاكر إسمه وشكله كويس، حتى صوت ضحكته وطريقة هزاره، عم "ميشيل"، كان عنده 50 سنة، عملتله جراحة استئصال للزايدة الدودية، عملية عملتها عشرات المرات، والعملية المرة دي نجحت كالعادة، استغرقت ساعة واحدة بس، وبما إني بقيت برتبط مهما حاولت بالمرضى بتوعي فكنت فرحان، فرحان أوي، خارج وأنا على وشي ابتسامة مش قادر اتحكم فيها برغم الصفار اللي على وشي من الإرهاق والهالات السودة المرعبة، كنت مستني يرتاح شوية وأعدي أطمن عليه، أخطفلي دقيقتين بس، أشوفه مرتاح ومتطمن...
لكن اللي حصل حاجة تانية خالص...
اتفاجأت بصريخ بعد 10 دقايق، الممرضة "مهرة" بتنده عليا بعلو صوتها...
الصوت كان كافي يسبب ذعر للمستشفى كلها مش أنا بس ، جريت على مصدر الصوت لقيتها أوضة عم "ميشيل" اللي لسه عامل له عملية الزايدة، الممرضة " مهرة " كانت واقفة جنب السرير ومش مبطلة صريخ، بتبصله وتبصلي بهلع، "ميشيل" كان مشلول، مفيش حاجة بتتحرك في جسمه غير عنيه وفي اضطراب في نبضات قلبه، حاولت أسعفه لكن للأسف مات بعد دقايق!
مقدرتش افهم إيه اللي حصل له، حتى الأعراض دي مش من مضاعفات عملية الزايدة اللي بتحصل كل فين وفين، لا حصل نزيف ولا أي عضو تاني اتأثر بالعملية، إيه تفسير اللي حصل له ده؟؟
زمايلي والممرضين فضلوا يطمنوني إني معملتش حاجة غلط وإن العملية نجحت واللي حصل كان قضاء وقدر ملوش علاقة باي اجراء عملته، أنا مش معترض على كلامهم، مكنتش قلقان على مساءلة قانونية ولا شاكك في خطأ طبي، لكن كنت حزين على الراجل ومصدوم...
ودي كانت بس البداية...
في حالة كانت بتعاني من مشاكل في الجهاز الهضمي، مكنش في عملية أصلًا، لكن حالة المريض استدعت يدخل المستشفى كذه يوم، الراجل كان بيتحسن وكلها يوم مثلًا ويخرج من المستشفى وبرضه أنا اللي كنت مسؤول عن حالته...
المفروض كنت خلاص خلصت الشيفت، قلعت البالطو واستعديت للخروج، كنت شايف مدخل المستشفى على بعد خطوات، لكن رجلي لفت ورجعت تاني، رجعت على صوت صويت...
جريت لحد الأوضة اللي كانت فيها، على السرير "تميم" كان ممدد، متشنج، جسمه في حالة شلل تام، دقات قلبه متسارعة وعنيفة، دخل في صدمة وبعدين مات!
ملحقتش أعمل له حاجة، الموضوع حصل بسرعة، مفهمتش، مفهمتش!
إيه بالظبط اللي حصل ل"تميم"، راجعت الأدوية اللي وصفتهاله والكورس العلاجي اللي كتبته بناء على التحاليل بتاعته، المفروض إني مشيت مظبوط، الكل فضل يطمنني، وبالعكس كانوا مستغربين من توتري، إيه الجديد؟ ما في حالات كتير بتموت في المستشفى، بعد عملية أو خلال وجودها لأسباب طبيعية، وده كان بيحصل طول الوقت، اللي كان غريب هو استغرابي وتوتري، لكن..مش عارف، أنا كنت حاسس إن في حاجة مش مظبوطة، إحساس قوي...
بعدها بإسبوع، حصلت نفس الأعراض لمريضة، لكن مش أنا اللي كنت مسؤول عنها ومع ذلك، أنا اللي كنت موجود بالصدفة وحاولت أنقذها، جسمها حصل له شلل تام ودخلت في غيبوبة، وكنت متوقع إنها تموت في أي لحظة...
البنت اللي عندها 12 سنة فضلت في الغيبوبة يوم والتاني وصحيت في تالت يوم!
سبحان الله، الواحد مينفعش ينصب نفسه قاضي، يقول من يموت ومين يعيش مهما كان عنده علم، أهي صحيت برغم إن ده كان مستبعد...
الدكتور اللي كان مشرف على حالتها جري عليها، وشه كان منور من الفرحة ، حط إيده عليها كإنه بيتأكد إنها فعلًا فاقت، وأنا انضميت ليهم، إحساس جميل! إن المريض اللي أنت مشرف عليه يفوق أو يتحسن خصوصًا بعد الرعب من إنك تفقده...
البنت كانت بتنتقل بنظراتها ما بيننا إحنا الاتنين، متكلمتش ولا كلمة، لدرجة إني قلقت، هل حصلت ليها مضاعفات خلتها مش عارفة تتكلم، في مشكلة صحية؟
لكن بعد سكوت دام لأكتر من دقيقة قالت بثوت ضعيف:
-الضل!
الدكتور "عصمت" رد عليها:
-ضل إيه يا حبيبتي، أنتي شايفة ضل؟
-كان موجود.
-إمتى؟
-قبل ما أنام.
طبعًا هي كانت تقصد قبل ما تغيب عن الوعي وتدخل في الغيبوبة، هي دي الطريقة اللي قدرت تعبر بيها...
قلتلها وأنا ببتسم:
=هاجر يا حبيبتي متقلقيش خلاص إنتي بقيتي كويسة ومفيش ضل ولا حاجة وباباكي زمانه جي في الطريق إحنا كلمناه.
مدت إيديها وغرزت بصوابعها على دراعي، عينيها مكنتش بترمش وهي بتقول:
-كان في ضل من غير جسم، ضل بس، دخل الأوضة عليا، كان بيمشي بطيء، بطيء أوي، خطواته ملهاش صوت، كإنه مش ماشي على الأرض، فضل يقرب، يقرب لحد ما وصل قدامي، ميل براسه للجنب، وقتها قدرت أشوف ملامح، نقطتين في وشه طالع منهم نور أحمر، وشرطة مكان الشفايف وقرنين صغيرين على راسه وكان بيضحك بصوت من غير ما يحرك بوقه، ضحكته بشعة وبعدين حسيت إني مش عارفة أتحرك، مش عارف أصرخ، قلبي وجعني وبعدين نمت....
بعد ما كانت إبتسامتنا واسعة وفي أصوات ضحك بتطلع مننا واحدة واحدة الابتسامة ضاقت لحد ما بوقنا اتقفل وحواجبنا اتعقدت، في أجواء مريبة بقت في الأوضة لما خلصت كلامها، أكيد إحنا مكناش مصدقين أي كلمة من اللي بتقولها واحنا الاتنين من غير ما نتكلم كنا متفقين إن دي هلوسة، البنت اتهيألها كل ده، لكن برغم كده...
نفس الإحساس اللي جالي جاله، في حاجة مش مريحة أبدًا والكلام اللي هاجر قالته وراه حاجة....
من يومها وأنا بقيت عامل زي الرادار، عمال ألقط وأسجل!
بسجل في دماغي عدد الوفيات ونمط الموت في المستشفى، والمرعب إن فعلًا في نمط! اتأكدت، مفيش شك، حالات الموت شبه بعضها، لأ شبه بعضها إيه دي متطابقة!
كم المرضى اللي بيموتوا بنفس الأعراض، ده مش ممكن يكون طبيعي، مش صدفة...
ويا عيني على الممرضات اللي بيعيشوا نفس الرعب كل شوية، الموت في المستشفى دي ريحته فاحت...
حقيقي اللي يركز يلاقي ريحة معينة في الطرقات والأوض، ريحة مش واضحة لكن مزعجة للي ياخد باله، هو الموت ليه ريحه؟ بعيدَا عن البعد المادي، تعفن الجسم بعد ما الروح تسيبه، الموت نفسه ليه حضور وريحه؟
مش بس الريحة، كمان الضوء مبقاش يدخل المستشفى!
مفيش آشعة بتخترق، من إمتى والدنيا ضلمة كده في عز النهار؟
ده غير...معرفش، مرتين سمعت خطوات بتجري حواليا، في أوضتين مختلفتين، المرتين كنت لوحدي فيهم مع المرضى، ولما اتلفت ملقتش حد، مكنش في مصدر للخطوات دي، يمكن متهيألي، الإرهاق و...الأحداث الأخيرة اثرت عليا...
مصدقتش نفسي لما الكلام طلع مني، لقيت نفسي بسأل ممرضتين، "آيات" و"مهرة"، قلت:
=هو أنتوا...محدش فيكم لاحظ أي حاجة غريبة في المستشفى مؤخرًا؟
"آيات" ردت:
-مؤخرًا إيه؟ ده الحاجات الغريبة بتحصل من زمان، الطبيعي هو اللي غريب في المستشفى..
"مهرة" نغزتها بكوعها وبرقتلها وقالت:
-يا دكتور إيه الغريب بس؟ متسمعش لكلامها..
تجاهلت "مهرة" وسألت "آيات":
=قصدك إيه يا "آيات"؟ فهميني، إيه اللي بيحصل في المستشفى بالظبط؟
"آيات" ارتبكت، بصت ل"مهرة" وبعدين بصتلي وقالت بلهجة طفولية:
-خلاص بقى يا "مهرة" مهو كده كده هيعرف، مش أحسن نحذره عشان يبقى مستعد وميتذعرش؟
لفت ليا وقالت بصوت واطي:
-بص يا دكتور "باهي"، أول يوم ليا هنا من 7 سنين جيت على بليل، قدري بقى أول شيفت يبقى ليلي، المهم إني لما وصلت مكنش في نور في المستشفى كلها! مفيش غير لمبة بعيدة، في طرقة بعيييدة، ومكنش في جنس بشر...
=إزاي يعني؟
-صبرك عليا بس، أنا كنت حاسه زي ما أكون بحلم، بجد، كنت مقتنعة إني بسبب التوتر اللي بيبقى قبل شغل جديد أو امتحان أو سفرية حلمت وكنت بخرف، لكن الحلم كان حي قوي، اتلفت حوالين نفسي، ندهت: "في حد هنا؟"، مسمعتش غير صدى صوتي، بيتكرر مرة واتنين "في حد هنا؟"،"في...حد...هنا؟"، وأنا بتلفت للمرة العشرين خبطت في جسم قدامي، شهقت من الخضة، كان راجل أمن، سألني: "إيه اللي جابك هنا؟"، قلتله "أنا الممرضة الجديدة، إسمي "آيات"...حواجبه اتعقدت والخطوط اتجمعت في أورته، كان مستغرب كلامي، قلتله إن إسمي اكيد متقيد في سجل على كمبيوتر المستشفى أو سجل كتابي، أي حاجة…
رد بحزم: "امشي من هنا، مفيش حد في المستشفى"، قلتله "مفيش حد إزاي؟ أنا جيت قبل كده وقدمت على شغل والمستشفى كانت زحمة"، قاطعني وقال: "إمشي من هنا!"
خفت وارتبكت، مكنتش فاهمة حاجة، بس نفذت أوامره، طبعًا، أومال كنت هعمل إيه تاني؟ خرجت من المستشفى وعند الباب لقيت موظف أمن غيره، كان باين عليا التوهة أوي لدرجة إنه سألني إذا كنت محتاجة حاجة، قلتله إني عايز أفهم المستشفى قفلت إمتى وليه قفلت، الخيوط اتجمعت فوق عنيه، وشه كان عبارة عن علامة استفهام كبيرة، قال:
-قصدك إيه؟ يعني إيه المستشفى اتقفلت؟
-مفيش حد جوه، هوو، وزميلك مشاني.
-زميلي؟ مين زميلي؟
-موظف الأمن التاني، ابو شنب ده..
-أنا بشتغل في الشيفت ده لوحدي، مفيش موظف أمن تاني، وإزاي المستشفى فاضية؟ هي المستشفى بتفضى أبدًا؟
وقتها كمية اصوات لقطتها وداني في نفس الوقت، كإن كان في عازل للصوت والعازل اتشال مرة واحدة، والأصوات عملت هجوم على ودني، أصوات خطوات، اللي بتمشي، واللي بتجري، زعيق، صويت، النقالات، عربيات الاسعاف، الأبواب اللي عمالة تتفتح وتتقفل، لفيت من سكات وبصيت ورايا في اتجاه مدخل المستشفى، ولقيت زحمة رهيبة، زحمة المستشفيات الحكومية المعتادة، حيث لا مجال للراحة والهدوء…
=يعني إيه يا "آيات" مش فاهم؟ إيه تفسير اللي حصل ده؟
-يا دكتور، بقى مش عارف التفسير؟ بذمتك كده؟!
=المستشفى مسكونة؟ فيها عفاريت يعني؟؟
-هو في احتمال تاني؟
=لأ، مش مقتنع، ده كلام فاضي، عفاريت إيه؟
-طب حضرتك تفسر بإيه اللي حصل لي؟ وعلى فكرة دي بس كانت البداية، أنا وغيري من الممرضين والعيانين وكمان الدكاترة ياما شوفنا، أنا ممكن أحكيلك عن..
للمرة التانية "مهرة" نغزتها عشان تبطل كلام وقالت بنبرة فيها تهديد ليها:
-خلاص يا "آيات" الدكتور مش عايز يسمع، مش لازم نحكيله قصة حياتنا، قال مفيش عفاريت يبقى مفيش عفاريت، اتهدي بقى ويالا نشوف اشغالنا..
"مهرة" دي…
دي قصة لوحدها، مش بتبطل حركة، بتستحرم تقعد فاضية ولو دقايق أو ترتاح، مرتبها اللي هو كلام فاضي على الفلوس اللي من وقت للتاني المرضى بيدوهالها مظنش بيكفوها كام يوم في الشهر، ومع ذلك بتحلل الفلوس اللي بتاخدها، بتستحرم تاخد المرتب من غير ما تشتغل بيه، بكل قرش فيه…
ده كان رأيي فيها، واللي كونته بعد سنين من الشغل معاها، في الأول مكنتش شايفها اصلًا، مش واخد بالي منها، زيي زي كل الدكاترة اللي في المستشفى أكيد، الممرضات اللي زي "مهرة" موجودين طول الوقت، منقدرش نستغنى عنهم، من غيرهم الدنيا تنهار ومع ذلك كإنهم اطياف، مش مرئيين، محدش منا بيحفظ أشكالهم، ولا في وقت ولا رغبة نحس بأوجاعهم ومعاناتهم ونقدر مجهوداتهم، لكن أخيرًا الجبل اتهز وشفتها…
شفت بنت جميلة مكملتش ال30، جمالها هادي مش زاعق، وزي ما جمالها هادي هي نفسها هادية، كلامها قليل، مش بتفتح أحاديث جانبية ولا بتلت وتعجن زي باقي الممرضات في المستشفى، ملاحظتهاش غير بعد كم الحالات الطارئة اللي كانت بتندهني عشان أنقذهم، اه..الطوارىء، الحالات اللي كل مدى بتزيد، الموت اللي بقى في كل سرير، كل شوية!
الموت ريحته فاحت أكتر وأكتر، وأنا…بقيت خايف…
…………………..
"مهرة" ندهتني، أنا عارف الاستدعاء ده، النبرة دي حافظها كويس، نبرة الموت…
جريت، مع إنه ملوش لازمة، الجري بتاعي وخضتي بتاعة كل مرة لا بتقدم ولا تأخر، برضه المريض بيموت، مهما عملت بيموت، ومع ذلك بكمل كإنه دور مرسوم ليا ولازم أاديه وخلاص، عبال ما روحت المريض كان قطع نفس، لكن المرة دي ملامحه كانت مفزعة…
عنيه مبرقين، بوقه مفتوح على الآخر وجسمه متخشب، كإنه موميا!
فضلت واقف زي الصنم قدامه، وداني مش بتلقط الأصوات حواليا، عيني واقفة عليه…
-يا دكتور، دكتور!
أخيرًا قدرت اسمع، لكن كإن ودني مليانة ميه، كإني بعوم جوه محيط وأنا بسمع صوت "مهرة"...
-يا دكتور، الحالة ماتت، لازم نبلغ أهله ونشيل الجثة في التلاجة عبال ما ييجوا.
=مات إزاي؟ الأستاذ "حكيم" مات إزاي؟
"مهرة" ارتبكت، بان عليها القلق عليا، قدامها واحد مصدوم بيخرف، مش دكتور متزن.. ردت عليا:
-إرادة ربنا يا "باهي".
=أيوه مقولتش حاجة، بس إزاي، إيه اللي حصل له، إيه اللي حصل لهم كلهم؟؟
-أنت هتخوفني ليه؟
كنت زي المتخدر، مش فايق، مش مستوعب اللي بيحصل، وفي لحظة إدراك أخدت بالي إن "مهرة" قالتلي "باهي"، دي كانت أول مرة تندهني بإسمي من غير لقب، دايمًا كانت بتقول "دكتور باهي"، إحساس كان حلو، لكن مصمدش مع كل حاجة تانية بتحصل…
الأهل جم واستلموا الجثة، كان نفسي أقول لهم لكن متجرأتش، جوايا رغبة قوية إن الجثة تتشرح!
معرفش ليه، يمكن عايز أستبعد إحساس قوي، عايز ألاقي إجابات بدل الصوت اللي عمال يعلى جوايا، إن المستشفى…فعلًا…مسكونة! وإن اللي بيجرى للمرضى مش طبيعي، في حاجة مريبة ورا الموت اللي بقى من أصحاب البيت، قصدي المستشفى…
"مهرة" متكلمتش معايا باقي اليوم كلمتين على بعض، مكنش عندها وقت تحايل فيا زي العيل، لو اتعطلت دقايق هيبقى في فوضى، والدنيا هتقع…
خيم الليل و"مهرة" مشيت، الشيفت بتاعها خلص، خفت أكتر لما مشيت، مش فاهم إيه ده كمان، ليه فجأة كده بقيت حاسس إني محتاجها، هي بالذات، مش أي ممرضة تانية.
دخلت الاستراحة، مصدقت لقيت دقيقتين فاضيين، قعدت على السرير، أخدت نفس عميق، حسيت براحة رهيبة في الدقايق دي، لكن….
حالي اتغير، صحيح كانت الدنيا هادية، لكن هي دي المشكلة، الدنيا هادية أوي…
أدركت إن مفيش أصوات بره الأوضة، كل الأصوات سكتت!
إزاي؟ ده مفيش لحظة هدوء في المستشفى، الخطوات مبتخلصش والكلام والصويت برضه..
فتحت الباب وخرجت…
مكنش في حد!
الطرقات فاضية تمامًا، والدنيا لونها…رمادي، في غبار في الجو، ندهت:
=دكتور "عماد"!، دكتور "قمر"، دكتورة "صفية"، "آيات"...
مفيش، محدش بيرد عليا، كنت عمال أنده طول مانا ماشي…
الأوض…الإزاز فيها يا مكسر يا متغطي بالتراب، كإنها مهجورة من سنين كتير، وأخيرًا سمعت صوت خطوات…
لفيت ورايا بسرعة عشان ألحق صاحب الخطوات لكن مشفتوش، بعدها سمعت صوت ضحك، ضحك زي صدى الصوت ما بين الأركان، فضلت أمشي كتير ما بين طرقات المستشفى والأوض لحد ما رجلي مبقتش شايلاني، سندت على الحيطة ورايا، وبدأت…أغرق…
ده كان إحساسي بالظبط، كإني بغرق، كإن الحيطة بتشفطني جواها، وفجأة الدنيا بقت تلج حواليا، برد لدرجة باخد نفسي بالعافية،جسمي كان ممدد، متخشب، رفعت راسي وبصيت حواليا واستوعبت أنا كنت فين، تلاجة الأموات!
اتفزعت، جالي نوبة، أنا مش ميت، أنا جيت هنا إزاي، أنا مش ميت، أنا مش ميت…
فضلت أخبط بكل قوتي، وازعق، مش عارف إذا كان في حد هيسمعني، المستشفى أصلًا كانت فاضية، هم الناس راحوا فين، إيه اللي بيحصل لي…
الدرج اللي كنت فيه اتفتح على آخره، ولقيت وشوش مخضوضة بتبصلي كإني مولود، لسه نازل من بطن أمي وبشوف الدنيا لأول مرة، لكن الفرق إن الوشوش مش بتبتسم، دي وشوش مرعوبة، تايهة، حالهم من حالي، ووسط الوشوش دي أخيرًا ظهر وش قريب لقلبي، وش بيطمني، "مهرة"!
كانت بترتجف وهي بتقول:
-إيه اللي جابك هنا؟!
مكنتش قادر أرد حركت يدوبك وشي بحركة بطيئة يمين وشمال، بمعنى معرفش…
المستشفى كلها من دكاترة لممرضين لمرضى مكنش ليهم سيرة غيري، واللي يزود واللي يألف، اللي يقول إن الناس سمعوا صوت تخبيط من درج من أدراج حفظ الجثث ولما فتحوه لقوني ميت ومتجمد وبعد دقيقة فتحت ودبت فيا الحياة، يعني كنت بخبط وأنا ميت! واللي يقول إنه سمع إن حد شاف قريني، مخلوق شبهي بالظبط على باب الأوضة وإن الشخص ده لما جه يتكلم معايا ملقاش استجابة، أو بمعنى اصح حاول يتكلم مع قريني، المهم إن شبيهي أو قريني مشي وسابه، والشخص اللي مش معروف مشي وراه لحد ما وصلوا لدرج من أدراج التلاجة، وهنا سمع صوت تخبيط جامد من جوه الدرج وفتحه ولقاني جواه متجمد من البرد وشفايفي بتترعش...
أنا مختفتش نص ساعة مثلًا زي ما كان بيتهيألي، أنا غبت ساعات، محدش كان عارف روحت فين خلالهم!
روحت يومها من غير ما أنطق، متكلمتش كمان مع الناس عندي في البيت، لا أمي ولا أختي، حاولوا يفهموا مني، كانوا مخضوضين عليا لكني فضلت ساكت، هقول إيه! وحتى لو كان في نية إني أتكلم مكنتش قادر، كنت حاسس لسه إن لساني متجمد، طعم التلج لسه عليه...
رجعت تاني يوم المستشفى، الكل كان مستعجب، توقعوا أخد إجازة كام يوم عبال ما أتعافى من اللي حصل لي، وأنا نفسي فاجأت نفسي برجوعي! زي ما يكون ندهتني النداهة، مكنش عندي تحكم، اتجريت تاني جر للمستشفى، للطرقات الكئيبة والأركان المرعبة والحيطان اللي بتشفط الواحد جواها...
اتعاملت مع الممرضين والدكاترة عشان مضطر و كإنهم حاجات، مش بني آدمين، الكلام على القد، الحالة محتاجة إيه وإيه الإجراءات المفروض تتم وهكذا، حتى "مهرة" كنت بهرب من عيونها وبتفادى الكلام معاها...
محستش إني مستعد إني أتكلم غير بعد 3 أيام...
في لحظة من اللحظات النادرة في مكان كان فاضي من المستشفى، طرقة من الطرقات، و"مهرة" كانت ماشية جنبي، مسكت دراعها ولفتها ناحيتي...
عنيها وسعت، اتخضت من الحركة، وقبل ما تتكلم لحقتها وأنا اللي اتكلمت:
=اليوم إياه...طلعت من الاستراحة، ولقيت المستشفى فاضية، كان في غبار في الجو، غبار في كل حته، الشبابيك في الأوض كانت مكسرة وعليها أشبار تراب، كإن محدش عتبها من زمن، سمعت صوت خطوات وضحك، ملقتش صاحب الأصوات، فضلت أدور عليه، مشيت كتير، ملقتهوش، وبعدها سندت على حيطة وحسيت زي ما يكون...
سكتَ، الفضول زاد في عيون "مهرة"، وبراسها كانت بتسألني "حسيت بإيه؟"
كملت:
=كإني بتسحب جوه الحيطة، حاجة بتشدني، مش إيدين، كنت بتسحب بسلاسة، اللقطة اللي بعدها كنت متلج، مش قادر أحرك جسمي، والمكان حواليا ضيق أوي، لحد ما الدرج اتفتح واكتشفت إني كنت في تلاجة الأموات...
هربت من وشها، عيني زاغت وقلت:
=إنتي مش مصدقاني مش كده؟ أنا شخصيَا لما سمعت نفسي بصوت عالي مش مصدقني، هو أنا إيه...بتروح مني، هتجنن؟
قالت بحرقة وهي بتمسك إيدي:
-لأ، أنت مش مجنون!...مش "آيات" بس اللي شافت حاجات غريبة في المستشفى، أنا كمان!
سكتت لحظات وبعدين قالت:
-كانت في حاجات بسيطة بتحصل في أول شهر جيت فيه، بسيطة لدرجة إنها ممكن تتفسر بأي طريقة، مش شرط يعني حاجات خارقة، زي إني أحس إن في حد دخل الأوضة اللي أنا فيها، حد غير العيانين الممددين على السراير، لدرجة إني أحس بوجوده جنبي، ولما أرفع راسي ملاقيش حاجة، ده غير إني من وقت للتاني كنت بسمع إسمي بيتنده، الموضوع مكنش بياخد ثانية، عشان كده كل مرة كنت بقول بيتهيألي، وفي مرة الشيفت بتاعي بدايته كانت الفجر، ومع دخولي من بوابة المستشفى سمعت ادان الفجر، منطقي مش كده؟ باستثناء حاجة بسيطة، الادان كان جي من جوه المستشفى، زي مانت عارف في مصلى في المستشفى، مصلى رجالي ومصلى سيدات، لكن مفيش مؤذن جوه المصلى، علطول بنسمع الادان من الجامع القريب وبنصلي جوه المستشفى، دي كانت أول مرة أسمع حد بيأدن من عندنا...الصوت كان...مش عارفة أوصفهالك إزاي، نبرة المؤذن كانت غريبة، مختلفة، رفيعة أوي وحادة في نفس الوقت، مش زي أي صوت سمعته قبل كده، كإنه متكون من موجات مش معتادة، أنت..مستوعب أنا عايزه أقول إيه؟
=تقريبًا، كملي...
-أنا كده كده كنت هصلي، لكن برضه فضولي خلاني أمشي زي اللي معمول له تنويم مغناطيسي لمصدر الصوت، لمصلى الرجال، اللي طبعًا بنعدي عليه قبل ما نوصل لمصلى السيدات، والساحة بتاعته بتبقى مكشوفة، قربت من المصلى، صوت الآدان كان لسه شغال، لحد ما وصلت، وقفت قدام المدخل، الصوت شغال ومفيش حد بيأدن!، مفيش حد في المصلى، ولا بني آدم...استغفر الله، من الرعب أنا جريت ومصلتش، والأحداث موقفتش لحد كده، عارف الساحة بتاعة الكافيتيريا القديمة، المهجورة؟
هزيت راسي، اللي هو أيوه..كملت:
-محدش عتب الدور ده من سنين، يمكن 50 سنة مثلًا ويمكن أكتر، في يوم أنا و"آيات" كنا بنتمشى، كان عندنا كام دقيقة رايقين، وسمعنا حركة مصدرها الكافيتيريا القديمة، في الأول أخدنا الموضوع بهزار، إن المصدر هو الكافيتيريا المهجورة، وإن في نشاط مريب هناك، لكن ملامحنا قلبت جد لما اتاكدنا إن اللي بنقوله مش أي كلام، فعلًا مصدر الحركة كان المكان المهجور، أنت عارف إن "آيات" هي المتهورة اللي فينا، عشان كده تلقائيًا لفت وبدأت تمشي، كانت عايزه تروح هناك، أنا وقفتها، لكن مع إصرارها استسلمت، روحت معاها...
مشفناش حد والحركة وقفت، بس كنت حاسه بوجود، إحساس قوي إن في حد معانا، مش حد واحد، شلة كاملة، الأجواء مكنتش مريحة أبدًا، كل شوية كنت أقف وأطلب من "آيات" نرجع ، بس ولا كإن، فضلت مكملة وأنا وراها، كانت خايفة زيي، لكن فضولها أكبر من خوفها، لقينا في الساحة الواسعة فرش عالأرض وعليه...بواقي أرغفة عيش!
الأرغفة مفيهاش عفن، بالعكس، كانت تقريبًا طازة، في عدد كانوا متجمعين وبياكلوا في ساحة الكافيتيريا المهجورة، وقبل ما نوصل بحاجة بسيطة...
ودي كانت الإشارة اللي خلت "آيات" أخيرًا عايزه تهرب في أسرع وقت، جرينا، لكن بعد شوية في حاجة وقفتنا...
كتابة على الحيطان، جملة كل ما تخلص تتكرر...
"لازم أموتهم عشان أرجع أنعشهم ويعيشوا من تاني، دي الطريقة اللي هنقذهم بيها"
الجملة اللي اتكررت بشكل لا نهائي كانت مكتوبة بالدهان الإسود، والدهان كان لسه لزج، لدرجة نقط منه كانت بتنزل على الحيطان!
في لحظتها سمعنا...
خطوات جيه بسرعة، خطوات عنيفة، لشخص واحد، وكل مدى بتسرع في اتجاهنا، جريت بسرعة عمري ما أتوقع أجري بيها، قدرات بتطلع في المواقف اللي زي دي، لحد ما سبنا الدور ورجعنا للدور الأول، اللي هو كل المستشفى حاليًا...
="مهرة"...
-أيوه، أنا معاك يا "باهي"، معاك في إنك مش بتخرف، اللي حصل لك وأكتر موجود في المستشفى..
حركت راسي يمين وشمال بنفي إن ده اللي عايز أتكلم فيه، مديت إيدي ولمست إيدها وقلت:
=أنا محتاجك...
-أنا موجودة، متقلقش..
=لأ، أنا محتاجك قريبة أكتر، مش بس كممرضة، في حياتي كلها...
عنيها وسعت وبوقها اتفتح من المفاجأة، ملحقتش تعلق وأنا ملحقتش أكمل كلامي، جه دكتور صغير ندهني عشان كان في حالات محتاجاني...
كنت متأكد، برغم إنها مردتش عليا في ساعتها، كنت متأكد إن هي كمان جواها حاجة من ناحيتي، يمكن أنا أكتر، أكيد أنا اكتر بكتير، فجأة بقيت مش بفكر غير فيها، وزي ما قلتلها، كنت حاسس إني محتاجلها بشكل بشع، كإني ورد محتاج علطول للشمس وأول ما تغيب يدبل...
لكن يا فرحة ما تمت، ملحقتش أتهنى بالاعتراف اللي أخيرًا اعترفته ليها، عشان بعدها بربع ساعة بس، سمعتها بتندهني وهي مذعورة، أنا عارف النبرة دي كويس، وعارف اللي كنت على وشك إني أشوفه...
أطراف مشدودة متجمدة، جسم مشلول، عيون مفتوحة وثابتة في اتجاه معين...
مريض تاني يتضاف لقايمة المرضى اللي بيموتوا بطريقة غريبة، من غير أي تفسير!
والمريض ده زيه زي كتير كان لسه عامل عملية والعملية نجحت، المفروض يعني، وفاق، وكان خلاص كلها كام ساعة ويخرج من المستشفى ويرجع لأهله، اللي بعد ما تلقوا خبر نجاح عمليته هيتلقوا خبر موته!
اليوم مخلصش لحد كده، في موظف إداري جالي وقال إن مدير من المديرين، اللي بييجي المستشفى أكتر من غيره، تقريبًا متواجد كل يوم، بيستدعيني.
لما روحت بدأ يسألني أسئلة كتير عن المرضى اللي اتوفوا في الفترة الأخيرة من غير سبب واضح، وفي الآخر قال لي إن في تحقيق رسمي هيتفتح، وكل الدكاترة والممرضين هيتعرضوا للاستجواب بما فيهم أنا...
أهو ده اللي كان ناقص...
فاهمين غلط، السبب مش دكاترة وممرضين وخطأ طبي، ومش طبيعي برضه...
وفي عز التوتر اللي كنت فيه شفت وش كان دايمًا كافي يهديني ويحسسني إن الدنيا بخير، لأ مش "مهرة"، وش تاني، عم "أيوب"...
عم "أيوب" هو عامل في المستشفى، أوقات بشوفه في شيفتات الصبح وأوقات شيفتات بليل، أوقات بلاقيه بيجري في طرقات المستشفى، زيه زي أي دكتور أو ممرض أو موظف هنا، كلنا بنجري، وأوقات تانية بيبقى مستكين، قاعد في كرسي في ركن هادي، المفروض إن من ضمن المهمات بتاعته يجيب الشاي والقهوة والمشاريب للي بيشتغلوا هنا من الكافيتيريا، يجيب دوا من الصيدلية، حقن، يتابع المرضى، وبرغم كده عمري الحقيقة ما طلبت منه يجيبلي حاجة وجابها فعلًا، وده مش بسببه دايمًا، عشان أنا وهو بتصادف إننا ننشغل بعد ما أطلب منه الحاجة اللي عايزها، بيجيلي حالات أو هو بيعتذر عشان في حالة طارئة...
ومش ده بس دور عم "أيوب"، بالنسبة لي كان أكتر من مساعد أو مخلصاتي لمصالح المستشفى، دايمًا بحس إن عنده حكمة وقلب طيب، ودماغ حلوة وخبرة، مع إن اللي يشوفه يقول عليه من المشردين، هدومه دايمًا مبهدله ومقطعة، أغلب من الغلب بغلبين، وغالبًا اتعين من المستشفى شفقة، رفقًا بحالته، عشان يلاقي مكان يأويه ولقمة ياكلها...
عم "أيوب" كان عامل زي الواحة بالنسبة لي، المكان اللي بلجأ ليه عشان أريح دماغي وأفضيها من كل مسببات التوتر، بفضفضلهـ واوقات باخد رأيه في الأمور البسيطة والكبيرة، وهو اللي لما شفته في وسط الزوبعة اللي كانت حاصلة حسيته هيكون نجدة ليا...
حكيتله على المريض اللي مات يومها والتحقيق اللي هيتفتح والحالات اللي بتموت بالعبيط من كام شهر، وقلتله كمان إني تقريبًا بدأت أجمع السبب...
وهو المستشفى نفسها، المستشفى هي السبب، الأطياف اللي فيها، أو الطاقة السلبية والمظلمة، بأمارة شهادة "هاجر" البنت الصغيرة اللي دخلت في غيبوبة وفاقت بعدها بيومين، الضل اللي اتكلمت عنه، أبو عيون حمرة وقرنين، وإنها بعد ما شافته جسمها اتشل ودخلت في غيبوبة....
وبعدها حكتله على التجربة المرعبة اللي أنا شخصيًا اتعرضت ليها واللي أكيد سمع عنها من الموظفين في المستشفى، وتجارب "مهرة" و"آيات" اللي حكوهالي..
بعد ما خلصت كلام قال:
-وكل التجارب دي ولا حاجة بالنسبة للحوادث التانية اللي مرت بالناس في المستشفى على مدار سنين!
=أنت تعرف قصص تانية؟
-يوووه، القصص مبتخلصش، الناس والكيانات عايشين مع بعض في المستشفى زي كده واحد وانعكاسه في المراية، عايشين في نفس المساحة ونفس الوقت، ده غير الطاقة السلبية الرهيبة، وكمان عندي الأسباب...
=الأسباب؟
-الصندوق الأسود، المصدر اللي ممكن يفسر المشاهدات والظواهر الغريبة...
=تعرف إيه يا "عم أيوب"؟
-أنت مش وراك شغل؟
=لأ، أنا الشيفت بتاعي خلص، وانت فضيلي نفسك.
-لأ، من الناحية دي متقلقش.
وبعدين كانت في لحظة عجيبة، لحظة صمت مش مفهومة، عم "أيوب" بص قدامه، مكنش قاصد يبص لأي حد من اللي بيمروا، ولا لحاجة معين، كان سرحان، وبعدين بصلي وقال:
-عايزك تركز كويس في كل حاجة هقولها، حتى لو هتلاقي إجابات مش على مزاجك!
مقدمة مريبة شوية بس ماشي، هو اثار فضولي، وفعلًا استعديت أطرطأ وداني وأشغل عقلي على قد ما أقدر...
-الوبا انفجر كإنه علبة ديناميت في مصر، يمكن 1902 أو 1903 أو قبلها أو بعدها، في السنين دي، مع رجوع فوج المصريين من الحج، ودول انحجزوا لما الأعراض بانت عليهم لكن كان متأخر، الوبا كان اتسلل زي سلاسل ميه من زير مكسور وانتشر في مصر كلها...
=أنهي وبا؟
-الكوليرا... والمستشفى دي اتقلبت حجر صحي، تقريبًا مبقاش فيها غير مرضى الكوليرا، والموت كان في كل حته، كل دقيقة واحد بيموت..
=مكنتش عارف إن المستشفى قديمة اوي كده..
-دي أقدم كمان، مش بس عمرها اللي يولد طاقة سلبية رهيبة، كمان الأحداث اللي فيها، كم الموت اللي كان موجود في زمن الكوليرا، متعرفش كنت تفرق بين الحالات والدكاترة، الكل بينتهي في صناديق، الكل مريض والوبا بينهشه، وبعد ما الكوليرا خلصت، المستشفى اتقفلت لوقت، الرمادي...
=رمادي؟
-الرمادي كان مسيطر على المكان، مش بس الأركان والشبابيك، الجو نفسه، كإن الدنيا بتمطر رماد..
عيني وسعت عالآخر، افتكرت اللي حصل معايا وقلت:
=لرمادي! الغبار اللي شفته قبل ما ادخل التلاجة..
حرك راسه بيوافق على اللي قلته...
كمل بعدها وقال:
-القصص مخلصتش على كده، المستشفى كانت بيت لأكتر الحالات غرابة واضطراب! بعد ما المستشفى اتجددت واتفتحت من تاني، اللي هو بعد ما الوبا خلص ب10 سنين، استقبلوا حالة...
راجل سكينة محشورة جوه صدره!
=كانت لسه جوه صدره؟!
-ايوه، لسه كانت غارزة، الدكاترة والممرضين عملوا عمل بطولي، نجحوا يخرجوا السكينة وينقذوه، إيه بقى حكاية الراجل ده؟ ده كان راجل عنده بوتيك في وسط البلد، كان بيبيع فساتين للستات، الفساتين كانت صنع محلي، عنده كام ترزي، هم اللي بيصمموا ويخيطوا الفساتين بنفسهم، وفي يوم واحدة كانت معدية من قدام البوتيك وعجبتها الفساتين اللي في الفاترينة، دخلت وجابت فستان، مين دي بقى؟ دي مرات واحد تاني عنده بوتيك في حي المعادي، بوتيك وسط البلد كان يعتبر متواضع بالنسبة له، لكن وصف الست "صفية" وإعجابها بالتصاميم والفستان اللي ورته لجوزها "محجوب" خلاه عنده فضول يشوف المحل بنفسه ويتعرف على صاحبه، وراح بنفسه وانبهر، واتصاحب على "فؤاد" صاحب البوتيك وبعد فترة عرض عليه شراكة، إن المحلين يضموا على بعض تحت إدارة واسم واحد، فرع في المعادي والتاني في وسط البلد وكمان "محجوب" عرض الدعم المادي عشان كان عنده يقين إن "فؤاد" موهوب والشغل هيتوسع والمكسب على المدى هيتضاعف، لكن حصل اللي متوقعوش الاتنين وهو إن النجاح كان أكبر بكتير من اللي خططوا له! الستات بقت تيجي من كل مكان في مصر، مش بس القاهرة، ده كل المحافظات، ومبقوش ملاحقين، وفتحوا بوتيك تالت وبعد سنتين فتحوا مصنع بحاله، الدنيا كانت ماشية زي السكينة في الحلاوة، ومكنش في أي فرصة لحد تاني ينافسهم، وكانوا خلاص هيتوسعوا لبره مصر، لولا حصل اللي مكنش حد حاسبله، "فؤاد" وقع في خية القمار، اتغر والفلوس لعبت في إيده، وبدل ما كان مصلي، بيقيم الفروض في وقتها، راجل تقي، بيصوم كتير وبيتصدق وبيعامل الناس بالحسنى ومتطلعش منه العيبة، للأسف الفلوس كانت اختباره، إبتلاء بين اسوء ما فيه، كل حاجة انهارت بسرعة، المصنع والمحلات، "محجوب" حاول معاه في الأول، حاول يخرجه من الطين اللي غرز فيه، لكن مفيش فايدة، اتجر لسكة اللي يروح ميرجعش، وكان لازم "محجوب" يتحرك بسرعة قبل ما يخسر كل حاجة، اتفق مع كذه مصمم تاني، عرب على مصريين، وأجبر "فؤاد" يتنازل عن نصيبه في كل حاجة، هدده إنه هيفتن عليه، هيقول لعدد من العصابات والبلطجية اللي مديون ليهم بسبب القمار على مكانه لإنه طبعًا كان هربان، كان لازم ينط من المركب وينقذ نفسه، ده اللي كان بيفكر فيه "محجوب"...
"فؤاد" مش يحس بالكسوف وبوكسته وإنه سبب في الوحلة اللي هو فيها، لأ، اللي حصل إنه كان قاعد في أوضته القديمة في شقته القديمة، اللي هي عبارة عن أوضة ومطبخ شبر ف شبر وصالة يدوبك قد الأوضة، أصله ملقاش غير المكان ده يأويه واضطر يرجع ليه ، كان قاعد مقرفص، تاني ركبه وساند كوعه عليهم وحاطط كفينه على خدوده وحاسس بحرارة رهيبة حوالين وشه، في الغالب هو كان مصدر الحرارة، خارجه منه هو، تعرف إيه الحرارة دي؟
=إيه يا عم "أيوب"؟
-غضب رهيب، خرج بره السيطرة، عامل زي النار اللي بتشعلل في الغابات وتتحول للهيب وتفضل تزحف وتزحف وتعلي لحد قرب السما، كده كده "فؤاد" القديم كان مات خلاص، ومش متوقع منه يرجع ويندم في النقطة دي، كل اللي بقى مسيطر على تفكيره فكرة واحدة، الانتقام، والمنطق الوحيد السايد هو "عليا وعلى أعدائي"، سحب سكينة وحطها في قماشة واتوجه لبيت "محجوب"، اللي فتحت الباب كانت مراته وهي أول ضحية، طعنها فوق العشرين طعنة في الجزء اليمين من جسمها، رقبتها على كتفها على صدرها على كليتها، كله حصل في لمح البصر، "محجوب" شاف مراته وهي بتتطعن، فضل في حالة صدمة ثواني، مشلول، والثواني دي كانت كافية إن "فؤاد" يخلص عليها، أخيرًا راح لفؤاد وزقه، وبرغم إن "محجوب" جسمه أكبر من "فؤاد" لكن الغضب وشيطان نفسه اللي كان بيجري فيه مجرى الدم كان محرك قوي، وأداله أكيد قوة أكبر من محجوب ، "محجوب" رفع إيده، حاول يصد ضربات "فؤاد" بالسكينة، لكن السكينة قطعت في إيده وفي الآخر وقع، بقى منهك، مش قادر يقاوم، طعنه كمية طعنات متتعدش، جسم "محجوب" بقى عامل زي المصفى، لكن تفتكر اكتفى بكده؟ ده طلع في الدور التاني عند البنات الاتنين، بنت عندها 19 سنة والتانية 11 وخلص عليهم، في الوقت ده في ناس من الشارع اقتحموا البيت من الدوشة الرهيبة، كانوا خلاص هيمسكوا "فؤاد"، هو بصلهم وضحك وغرز السكينة في صدره!
بعد ما دخل المستشفى بالحالة دي والدكاترة انقذوه وفي نفس الليلة "فؤاد" قام من سريره من غير ما حد يحس وقدر يوصل لمشرط ونحر رقبته!
كان في بركة من الدم في المكان اللي مات فيه، في أوضة من أوض المستشفى دي...
=يا الله...
-ولسه، في حالة دخلت المستشفى سنة 1948، المرة دي كان مخبوط من أتوموبيل، متخرشم، عنده نزيف داخلي، وعضمه متكسر وضلوعه...اللي خبطه كانت الشرطة وهم بيلاحقوه، "كمال لطفي السقا" شاب دوخ الشرطة عليه، لما دخل المستشفى كان عنده يدوبك 20 سنة، كمال كان مولود بإعاقة، وقتها على الأقل كانت تعتبر إعاقة لإن الطب مكنش متطور في النقطة دي، كان عنده إضطراب الوسواس القهري، اللي بيبقى عنده وسواس قهري يا بني بيبقى مسكون بأفكار ومخاوف غير منطقية عنده هو وبس، ملهاش وجود في الحقيقة، وطبعًا بتختلف درجتها من واحد للتاني، صاحبنا بقى "كمال" للأسف الموضوع عنده كان خطير، لدرجة إن ابوه وامه وأخواته كانوا دايمًا عنيهم عليه، مينفعش كان يتساب لوحده في أي مرحلة، وأكتر واحد كان قادر ياخد باله منه ويحميه من نفسه هو أبوه، ابوه كان محترف في التعامل معاه، باله طويل، مظبط مواعيده وحياته عليه، بيصحى قبليه وينام بعد ما يتأكد إن الولد نام، بيرجع من شغله يحضر الأكل أو يخلي مراته تحضره وياكل مع "كمال"، هو اللي بيخرجه، ينزله للحلاق أو يفسحه، وكان نسبيًا بيعرف يهديه لما تجيله نوبة شديدة، من بتوع جاري بيراقبني وعايز يموتني، ولا العيال في أول الشارع بيترصدوني وعايزين يخطفوني وهلم جرا...
ولما الأب مات كل حاجة انهارت بسرعة، حالة "كمال" بقت أسوأ بكتير، راح مرجعش، غاب عن العالم بتاعنا وعن الإدراك، بقى دايمًا مسافر بخياله لحته تانية، عقله بيصورله بشاعات، أمه واخواته مهما حاولوا مقدروش يحلوا محل الأب، محدش كان عنده نفس التفاني وطولة البال، عارف في الآخر عملوا إيه؟ سابوله البيت واتنقلوا لبيتهم التاني في اسكندرية، وجابوله ست نقدر نقول عليها مربية على ممرضة، مش متعلمة في المدارس، ومش محترفة، يعني أهو واحدة تقعد بيه وتاخد بالها منه، وبعد ما سابوه مفيش بشهر ابتدت الجرايم..
=جرايم؟
-جرايم العصاية، في منطقة العمرانية.
=المنطقة اللي كان عايش فيها "كمال"...
-الله ينور عليك.
=الضحايا كانوا رجالة وستات عواجيز أو مشردين أو ذوي إعاقات، كلهم ماتوا بنفس الطريقة، ضربة قوية على راسهم من سلاح الشرطة قدرت إنه غالبًا عصاية، الناس في الفترة دي يا دكتور "باهي" كانوا مأمنين لبعض، لدرجة مكنوش بيقفلوا ابوابهم بمفاتيح، وأوقات كانوا بسيبوها مفتوحة، محدش كان بيقتحم بيت غيره، أو يدخل من غير استئذان، وده اللي خلى الضحايا فرايس سهلة، "كمال" كان بيدخل عليهم في أنصاص الليالي وينزل على أدمغتهم بالعصاية، دي كانت عصاية ابوه بالمناسبة، كان بيتسند عليها في آخر أيامه، بعد شهور وعدد ضحايا كبير وحيرة أخيرًا الشرطة قدروا يتوصلوا إن "كمال" هو السفاح بعد ما الست اللي بترعاه بلغت عنه لإنها أوقات كتير كانت بتصحى بليل متلافيهوش وكذه مرة تظبطه داخل من باب الشقة، متلطخ بالدم وفي غيده عصاية أبوه، المهم إنه حاول يهرب والشرطة خبطته بأتوموبيل وجه على هنا، تعرف بقى إيه المثير في الموضوع؟
=إيه؟
-لما استوجبوه قال " لازم أموتهم عشان أرجع أنعشهم ويعيشوا من تاني...
قاطعته وقلت:
=" دي الطريقة اللي هنقذهم بيها!"
عم "أيوب" عقد حواجبه وبصلي باستغراب، قلتله:
="مهرة" حكتلي إنها شافت الجملة دي مكتوبة ومتكررة على حيطان الدور المهجور بتاع الكافيتيريا القديمة، طب وده معناه إيه؟
-ضحاياه مكنوش عشوائيين، الناس دي، أهل منطقته، كان بيشوفهم على شكل وحوش، والمنطق بتاعه صورله إنه بيقتل الوحوش اللي مسيطرة على أجسامهم ووعيهم، زي طفيليات بتتغذى عليهم وحبساهم جواها...
=أيوه بس، دول كلهم كانوا مش اقويا كفاية، ناس كبيرة أو ذوي همم، اشمعنى دول اللي شافهم وحوش؟
-مظنش هم بس، لكن دول كانوا الهدف الأسهل ويمكن بعد كده كان هيتنقل للمستوى التاني ويجازف ويقتل شباب ورجالة، هو بس اتلحق. قعد كام يوم في الرعاية وبعدين توفاه الله، وأخيرًا وليس آخرًا، أصل قصص المستشفى المريبة مبتخلصش، فدي هتكون آخر حكاية هحيهالك، جت واحدة عندها حروق من الدرجة التالتة في وشها ودراعاتها وصدرها وبطنها وأجزاء من رجليها، كانت مسلوخة، جسمها بيغلي، مش بتبطل صويت كإنها لسه بتتحرق، من ساعة ما عدت من المدخل وخلال نقلها من طرقات المستشفى لحد الأوضة، الست دي بقى اللي كان اسمها "شفيقة"، في يوم من الأيام كان عندها ضيوف وصبتلهم شاي لكن لاحظت إن الشاي لونه متعكر وغريب، داقت من كوباية لقته كارف، قالت لإبنها ينزل بسرعة يجيب شاي من البقال عشان واضح إن الشاي بتاعهم لقط روايح وطعم من البهارات، الشاي كان لسه بيغلي، زي الشاطرة راحت بيه على الحمام ودلقت كل اللي في الكبايات في حوض الحموم، عشان قال إيه خافت حد من الضيوف يلمحها وهي بترميه في حوض المطبخ وتتفضح! ومن وقتها يا بني وأحوالها عجيبة، بتقضي وقت كبير في الحمام، وبتخرج منه وعلى جسمها علامات ضرب ووشها بقى باهت وعنيها مفتوحة عالآخر طول الوقت، لحد ما أهل البيت صحيوا في يوم على صوت صريخ رهيب، جريوا عالحمام اللي هو مصدر الصوت لقوها ماسكة حلة ضخمة فوق راسها وبتصب الميه المغلية على راسها وجسمها، كمية الميه كانت رهيبة، والبخار مالي الجو، وبتصرخ ومكملة كإن ملهاش إختيار، مجبرة تعمل كده...
=وده بقى إيه تفسيره كمان؟
-أكيد أذت مخلوق من مخاليق ربنا لما صبت الشاي المولع في حوض الحموم، وهو أو حد تبعه قرر ينتقم منها...
=واكيد ماتت في المستشفى مش كده؟
هز راسه بيأكد كلامي...
=بس يا عم "أيوب" في تفاصيل من اللي حكتها مش منطقية، يعني مثلًا الغبار اللي كان في الجو بعد ما المستشفى قفلت بحبه، والضحك اللي "فؤاد" كان بيضحكه قبل ما يغرز السكينة في صدره، الكلام ده رغي في الفاضي مستحيل حد يعرفه، أكيد سمعته من موظفين المستشفى، كلام من هنا على كلام من هنا، إشاعات كتير وتزويد على القصص...
-يمكن، ويمكن متكونش إشاعات، المهم ركزت في التفاصيل؟
=ركزت..
-طب إشمعنى دلوقتي، القرناء والأشباح والطاقة السلبية، اللي كلهم موجودين في المستشفى في نفس الواحد ومن زمان هيأذوا ليه دلوقتي؟ ما طول عمرهم مطلعين عين الناس في المستشفى، دكاترة وممرضين ومرضى وبيشوفوا العجب، ليه الناس بتموت دلوقتي؟
=معنديش فكرة..
ابتسمت غصب عني لما افتكرت حاجة، قلت:
=برغم كل الفوضى دي لكن في نور، بصيص كده ظهر في العتمة، أنا عارف إني رايق ومش وقته، لكن متهيألي أنا وقعت في حب "مهرة"، أنت أكيد عارفها، الممرضة، يمكن حبيتها من العشرة، من كتر ظهروها قدامي، حتى لو الظهور ده عبارة عن اجتماعنا في أوض العمليات والعناية المركزة وقدام المرضى اللي بيموتوا بشكل مريب، وجودها علطول قدامي ومواقفها الجامدة خلتني أتشد ليها غصب عني...
عم "أيوب" معلقش، نظرته كانت جامدة، مش باصصلي، باصص قدامه...بعدها قام من غير كلام وسابني...
أنا فعلًا وبغض النظر مبقتش قادر استحمل أكتر من كده، مش قادر افضل بطولي من غير "مهرة"، لازم كنت أخد خطوة، كنت محتاجها أوي في حياتي، جنبي علطول، أخدت خالي وروحنا اتقدمنا ليها، وأخيرًا شفت مشاعرها واضحة، مبقتش تقيلة زي الأول، بان في عنيها الشغف وحبها ليها، ومكنتش قادرة تخبي ضحكتها، كل حاجة هتبقى كويسة، كان عندي يقين بده...
التحقيق كان عامل زي الدوامة القوية اللي بتشفط كل حاجة فيها، كلنا اتعرضنا لاستجوابات مكثفة وعنيفة، لدرجة بقينا خايفين، حاسين إننا عملنا مصيبة، كإننا كلنا مسؤولين عن موت المرضى...
وفجأة مبقاش فيه موت...
قصدي يعني بنفس النمط والأعراض، رجعنا تاني للمعدلات الطبيعية والأسباب المعروفة لتدهور الحالات، مبقاش في مرضى بيموتوا مشلولين...
المفروض إن ده خبر يفرح مش كده؟
هو كان كده في أول كام يوم، الشمس رجعت تاني تخترق كل مكان في المستشفى، الريحة الكئيبة الغريبة اختفت، والوشوش رجعت تضحك من تاني، لحد ما في يوم سمعت الهمس...
همسات قوية، أصوات داخلة في بعض، والمصدر الكافيتيرا المهجورة...
ابتسامتي ضاقت، سبت اللي في إيدي واتسحبت للدور إياه من غير تحكم...
كل ما أقرب كل ما الهمس يزيد، لحد ما وصلت لساحة الكافيتيرا، كان في ملاية مفروشة على الأرض، ومفيش عليها حد، الأصوات من غير اجسام، لحد ما في أجسام بدأت تتشكل، اتنين شكلهم شاحب، عضم وشهم بارز، تحت عنيهم غائر، جنبهم واحد رقبته منحورة ومغروز جوه صدره سكينة، وواحدة جلدها أحمر لون النار، وواحد ماسك عصاية ورافعها لفوق، كلهم كانوا بيبصولي، وقاعدين بيفقروا...
الوضع فضل على ما هو عليه لحد ما في حاجة اتغيرت، اللي ماسك عصاية قام، وقربلي، أنا كنت مشلول، مش قادر أتحرك، دموعي بتنزل من الخوف، مستني مصيري...
بقى لازق فيا، قرب بوقه لودني وهمس:
-مش في ليستتي، مش تبعي...
الغريبة إني فهمت قصده وإن الباقي كانوا عايزين يقولولي نفس الكلام وده فهمته من نظراتهم...
سبتهم وفضلت ماشي لحد ما سندت على حيطة، حسيت إن الحيطة بقت رقيقة ورايا وإني...بدوب جواها، وفجأة لقيت نفسي واقف في نفس المكان بالظبط اللي كنت واقف فيه قبل ما أطلع الكافيتيريا، كإني متحركتش!
لكن أنا عارف إني كنت هناك، بطريقة ما كنت هناك...
حصلت تطورات في التحقيق يومها، تطورات مش قد كده، أجبرتني أبص في المراية واشوف الحقيقة، الحقيقة اللي مكنتش أتمنى اشوفها....
وهناك، بعدها بيوم لقيت عم "أيوب" قاعد في ركن عالأرض...
روحت قعدت جنبه وقلت بصوت مكسور:
=التحقيق جاب نتيجة، الحقيقة اتعرفت...
مردش عليا...كملت:
=لكن، شهادة البنت، هاجر...
-يا "باهي"... في أوقات الخوف الشديد أو الصدمة عقل الواحد بيهيأله شكل مرعب لمصدر خوفه، أو يمكن بالعكس بيشوفه على حقيقته البشعة، مثلًا "هاجر" شافت شيطان، عنيه حمرة، بقرون، صوته مرعب، لإن ده اللي ترجمته، ده تجسيد عقلها للشر اللي شافته، اللي كانت بتأذيها من غير سبب منطقي، من غير ما هاجر تعملها حاجة، هي فعلًا شيطانة، بشر بس شيطانة...
=أنا ساذج بشاااكل، مش انا عرفت ليه تخيلت إني حبيتها وإني مش قادر استغنى عنها، "مهرة" كانت مخططة لكل ده، كانت بتحقن المرضى بحقنة "البافولون" من غير دواعي للإستعمال، وده بس عشان أحضر وأكون معاها في نفس الأوضة، قال أنا اللي كنت فاكر نفسي بقرب منها، أتاريها بتعودني على وجودها، بتخليني أثق فيها وأحس بالأمان معاها، شوية شوية عيني أدمنتها ووداني أدمنت صوتها، وكياني أدمن وجودها، وكنت بشوفها جدعة قوية، بتعمل اللي تقدر عليه عشان تنقذ وتسعف، وحتى "آيات" صاحبتها بعد ما كانت أقصى حاجة ممكن تخاف منها هي عفاريت المستشفى، شفت في عنيها خوف أكبر من "مهرة"، "مهرة" هي أكبر شيطان، أكبر من كل الشياطين اللي هنا، لأ وإيه، "مهرة" اعترفت إنها في الأول كانت بتحقنهم بالبافولون عشان أكون جنبها بس بعد كده الموضوع إتحول لإدمان، القتل أخد مسار تاني، بقت بتستمتع والضحايا بيلفظوا أنفاسهم الأخيرة، وهي بتراقب أرواحهم بتنسحب منهم ، كانت بتحس بنشوة! تعرف إنهم عرفوني قبل ما نتيجة التحقيق تطلع، الأشباح ولا القرناء عرفوني، قالولي إن الضحايا مش في ليستتهم، مش مسؤولين عن الموت في المستشفى، بس مكنتش اتخيل إن الجاني هي "مهرة" وإني أنا المحرك والدافع ورا القتل، ده إسمه إيه ده؟
-إسمه هوس، اضطراب، الهوس بشخص لدرجة الاستعداد إنك تتخطى كل الحدود عشان تبقى معاه، بس العيب مش فيك يا بني، هي مضطربة، من البداية مش متزنة وإن مكنش انت، كان في حد تاني هيظهر وهيحرك الهوس ده فيها، واه، ده من أكتر الظواهر المرعبة في الدنيا دي، أكتر من عفاريت المستشفى...
عدى كذه يوم، مشفتش فيهم عم "أيوب"، الواضح إنه كان مطحون في شغله وأنا كمان مكنتش فاضي، وفي آخر يوم من أيام الشغل جالي فضولي أروح الكافيتيريا القديمة لآخر مرة، مكنتش خايف، متأكد إني مش هتأذي، أصل إيه اللي ممكن يأذيني أكتر من "مهرة"، مين يقدر يعمل أكتر منها؟
فتحت كشاف الموبايل ومشيت بالنور بتاعه، فضلت كده هايم لوقت كبير لحد ما رجلي داست على حاجة، رفعتها لقيتها كراسة، جواها كتابات، ملاحظات من سنين كتير فاتت، وشوية...صور...
في صور كانت رايحة في داهية، الوشوش ممسوحة وكل المعالم، مفيش حاجة باينة منهم، وصور تانية كانت واضحة، من ضمنها صورة خلتني واقف مكاني زي التمثال، مش قادر أشيل عيني من عليها، في الصورة كان عدد من المرضى متزاحمين في أوضة واحدة، وشهم شاحب، عضمهم باين، ومع ذلك في شبح ابتسامة، بيحاولوا بيبتسموا، ومن ضمنهم...عم "أيوب"!
افتكرت...
أنا عمري ما شفت "أيوب" بيتعامل مع حد، عمري ما شفته فعليًا بيشتغل، مكنش بيجيبلي حاجة عشان مش محسوب علينا، ده شبح! ومكنش بيجيب لغيري حاجة، هو بس كتير كان بيمشي بسرعة كإنه مستعجل وهو اللي فهمني إنه بيشتغل، وصفلي وظيفته اللي مش وظيفته ولا حاجة، كان عايز يطمني ويخليني أحس بالأمان في وجوده، بس يا ترى بعد ما عرفت سره هيظهرلي تاني؟ يا ترى هشوف عم "أيوب" ولا خلاص أدى مهمته واتحجب عني؟....
"تمت"