سوف نروى الارض الليلة يا بنى ... لا تخرج الليلة اخر رية للقمح لابد ان يروى حتى لا تسفه حبة القمح فلا تنضج وتضيع علينا زرعة السنة ...جملة قالها أبى ولأبى السمع والطاعة .. كنا فى أواخر شهر أبريل والجو ليلا يكون فيه لسعة برد شديدة
ذهبنا الى الحقل كانت ليلة ظلماء .. كنت أول مرة أرى أرضنا فى هذا التوقيت
الظلام الدامس يلف الوجود حولى .. السكون الرهيب يجعلنى أسمع همس أنفاسى بعمق غير أن طنين البعوض يؤنس أذنى ووجهى ..
اقتربنا من الترعة وعلى شاطئيها النخيل مصفوف بدقة كأنه علامات فى الظلام
واذا بنقيق الضفادع وعرير الصرصور يعزف سيمفونية مزعجة على وتر واحد
جلس أبى بجانب الساقية يراقب البقرة عن بعد تمشى تارة وتريح تارة أخرى يتخللها
خوار ممزوج بحنين لأبنها الرضيع الذى تركناه فى البيت ...
مشيت على شط المسقة التى تنقل المياه فوجهت المياه بالفأس داخل الارض دون همس يرعبنى صفير الريح .. تطوف برأسى حكايا الخوف كأنها تجمعت كلها الليلة
واكثرها رسوخا الحكاية المأثورة عن العفاريت انها تتشبه بالانسان الا .. قدمه ..
فتراها قدم بقرة أو حمار أو ... والتفت حولى بخوف فأسمع حفيف الشجر
هل هو جريد النخيل يصدر صوت غريب ... أم أن سنابل القمح تتراقص فى سعادة
فرحا بقدوم المياه اليها ... أم أن شبحا يتعقبنى وتراه الان يسخر منى ..
جلست على شط المسقة جلسة القرفصاء ... ظهرى الى الساقية أضع يدى على قدمى
اشعلت سيجارة أحاول أن أهرب من هواجسى وظنى ...
أمسكت بالسيجارة لايظهر منها الا مبسمها واداريها داخل يدى خوفا من أن يراها أبى
واذا بضربة فى ظهرى أرعبتنى وبدون أن أدرى وقعت السيجارة فى المياه ....
ألتفت برهبة أنه أبى كان لا يرانى فى الظلام وأصبح خوفى خوفين ... الاشباح ..
أو أن أبى يكون قد لمح السيجارة فى يدى .. فأحتمى بمن ...
--- مالك يا ابنى قاعد هنا ليه
فقلت له متلجلجا ... انا مستنى أحول المياه عن الجزء الذى روى الى الجزء العطشان
--- روح يا ابنى اشرب شوية ميه من القلة عشان تهدى
كان أبى حنونا لأبعد مدى فليس له أخوة رجال ... فكنا له اخوته وأصحابه واولاده
--- طب يا ابنى وانت جاى هات شوية وئيد نسوى بهم الشاى
تركنى أبى وذهب الى الساقية لكى يتابع البقرة ... تركنى مع خوفى وظنونى ..
حاضر ... أخجل أن أقول لوالدى انى خائف ... كيف لرجل يقول انه يخاف
انا عمرى تسعة عشر عاما ... النشأة تحتم علينا الجراءة والشجاعة ...
لكن الخوف هو الخوف ليس له عمر أو وقت أو عنوان .
---- عيب تقول انك خايف اومال أنت راجل ازاى ...
بجانب أرضنا توجد أرض جار لنا باعها منذ حوالى ثلاثة اعوام لتاجر اراضى
فبورها لكى يعرف يبيعها تقسيم فى وقت كان لايوجد عمران داخل الحقول .
نحن وكل الجيران نضع فيها الحطب والخشب والسباخ كأنها تشوينه ....
كان قد وقع جريمة قتل قبل عام ووضع القتيل فى حلة الحطب وقبض على الجانى
كان من خارج بلدتنا من الصعيد وتداولتها الصحف حينها .
والحطب والخشب فى نفس المكان ... يالله ....
---- جالك الموت يا تارك الصلاه
وأنا ذاهب اليه خائف من كل شىء ... من شبح القتيل .. فحيح الافاعى ...
صرير الفئران .. صئى العقارب .. دقات قلبى تهزنى فينتابنى خوف برجفة
يقشعر لها بدنى وتشيب لها رأسى .
فقرأت كل ما أحفظ من القران ودعوت الله أن يحفظنى من كل سوء .
أحضرت الخشب ورجعت بظهرى .. ووجهى نحو حلة الحطب بعينان مثل الصقر
ذهبت لوالدى عند الساقية .. أشعلنا النار وسوينا الشاى وشربنا ...شعرت بأمان
بجانب والدى ما بعده أمان .. أخذت كل الدفء ...
وجرعة حنان كافية أن أكمل ما بدأته ...
هنا سمعت أذان الفجر ينبعث من مساجد القرية وتعلو صيحة الله أكبر ......
وسط السكون فتملىء الدنيا اطمئنان وسكينه ..
وهنا قد أتممت والحمد لله رى الارض ..
ويالها من ليله .
محمد جاد