كثير من المهن التي كنت أراها من حولي في طفولتي وفي مراحل متقدمة من العمر لا أراها الآن ، لقد انقرضت من المجتمع واختفت تماما بفعل التطور الثقافي ربما أو بفعل التقدم التكنولوجي أحيانا إلا أن الإنسان يحس من حين لآخر بالحنين إلي الماضي والتحسر علي زمانه ، فقد ارتبطت بعض هذه المهن بشخصيات معينة في مجتمعنا الصغير في زمانها ما زالت الذاكرة تحتويهم وتستدعيهم كلما عن ما يدعو إلي ذلك وكان من بين هذه الشخصيات من اكتسب حب المجتمع وربما احترامه في ذلك الزمان رغم تواضع مهنة تلك الشخصية أو بساطة حال صاحبها ؛

مبيض النحاس

كان من مشاغل الإنسان الأول البحث عن وسيلة يجهز فيها طعامه ويأكل فيها ويحتفط فيها بما تبقي لديه من طعام فاخترع الآنية التي بدأت حجرية ثم فخارية ثم من خشب ثم من معادن مختلفة ثم من الزجاج ومشتقاته والميلامين والبلاستيك والصاج والكروم والصلب .. وغيرها وفي مقتبل العمر كانت البيوت المتوسطة تحتفظ لديها بطاقم كامل من الأنية النحاسية لزوم الطهي فهي أشكالا مختلفة منها وأحجاما متباينة لكل منها وظيفة خاصة لطهي نوع معين معين من الطعام بل كان لكل شكل منها اسم مختلف عن الأخر فهناك ( الحلة العلبة ) وهناك ( الدقية ) وهناك ( الشاورمة ) إلي جانب الصواني النحاسية المختلفة الأحجام والألوان ، وكانت الأنية النحاسية عند شرائها جديدة تتميز بلونها الأحمر الطوبي الداكن وربما من قدمها تتأكسد وتظهر علي جدرانها لون التأكسد أو كما كانوا يسمونه مجنزرة أي يميل لون نحاسها الأحمر المجنزر إلي الاخضرار لهذا فهي لم تكن صالحة للطهي بهذه الحالة ولابد في بادئ الأمر أن ترسل إلي مبيض النحاس لكي يعطيها لونا أبيضا زاهيا فضيا يلمع ويعكس ضوء الشمس ، ثم تستعمل بعد ذلك في طهي مختلف ألوان الطعام أما الصواني الكبيرة التي كانت تقوم مقام السفرة حاليا فكان أكثرها شياكة تلك التي تحتفظ بلونها الأصفر الزاهي ، وكانت هذه المهنة في قريتي الزرقا دقهلية في تلك الأزمنة محتكرة لأسرة بعينها هي التي يقوم أفرادها بالمرور في شوارع القرية من الصباح الباكر ينادون ( مبيض النحاس ، النحاس نبيض ) فتخرج السيدات بالأواني النحاسية التي جنزرت وفقدت بريقها وأصبحت في حاجة إلي التبييض ، فيتسلمها المنادي وكان غالبا من هؤلاء المبيضين المهرة الذى ينجز المهمة في أسرع وقت وبجودة عالية تستمر بها الآنية النحاسية محتفظة بتلك الطبقة الفضية البيضاء لمدة أطول ، وقد كنت مغرما في بعض الأحوال عندما أقوم بزيارة بيت جدي لأمي رحمه الله الشيخ إبراهيم عبد الله موسي في حارة القناية وكانت من أشهر حارات القرية والتي صار اسمها فيما بعد شارع داير الناحية حيث يتركز مبيضين النحاس للفرجة عليهم وهم يتراقصون في الأوعية النحاسية بعد وضع بعض الأشياء في الوعاء حيث يقومون بتحريك ذلك الشيء بأقدامهم في الوعاء حتي يتم تنظيفه تماما واكتشفت فيما بعد ان هذا الشيء الذى يضعونه تحت أقدامهم هو بعض من تراب الفرن مغطي ببعض قش الأرز ثم يوضع الوعاء في نار حامية ويطلي بالقصدير ويتم تلميعه بعد ذلك . تلك كانت مهنة شاقة تستدعي جهدا عضليا كبيرا والتعرض لوهج الحرارة الصادرة من النار الحامية التي تتعرض لها الآنية من أجل طلائها بالقصدير . لذلك كنت تجد من كبر سنه منهم دائما ومن كثرة رقصه تجده يشكو من آلام في الظهر والوسط .

وبعد ظهور الأواني المصنوعة من الألمنيوم الأخف وزنا والأرخص ثمنا والتي لا تحتاج إلي تبييض توارت الآنية النحاسية واختفت مهنة مبيض النحاس بالتالي واتجه المبيضون إلي تجارة الأواني الألمنيوم الجديدة والتي كانت في بادئ الأمر مرفوضة من الأسر الغنية نسبيا باعتبار أن النحاس أغلي قيمة من الأمنيوم إلي أن فرض الواقع نفسه وتغير نمط الاستهلاك بين الجميع غنيهم وفقيرهم إلي استعمال الأواني الألمنيوم ومن بعدها ظهر الصاج والصلب والأركوبال واختفت مهنة وانقرضت .

رحم الله عم حسن سبح أشهر مبيض نحاس في الزرقا ومع مهنة أخرى من المهن التي انقرضت لنا لقاء آخر