حين يجنُّ الليلُ، ويُسدِلُ الظلامُ سُدولَه، وتنسجُ خيوطُ الدُّجى شِباكَها الحريريةَ على وجهِ الأرض، تتصافحُ أطرافُ السماءِ الزرقاءِ مع أناملِ القمرِ الفِضِّيَّة، كأنَّهما يتواطآنِ على رسمِ لوحةٍ من سكونٍ ناعمٍ يُداعبُ الأرواحَ، ويُسكنُ القلوبَ الطمأنينةَ والسكينة.
يُطلُّ الصمتُ متوشِّحًا وقارَه، وتتناثرُ النجومُ كعِقدٍ انفرطتْ حبَّاتُه في صدرِ الفضاءِ اللامتناهي، فتغدو السماءُ مرآةً كونيَّةً تعكسُ أحلامَ الخيالِ حين يجلسُ متأمِّلًا في حضرةِ العقلِ اليقظ، كضيفٍ عابرٍ لا يريدُ أن يغادر.
هناك، يصبحُ التأمُّلُ ابنًا شرعيًّا لهذا الليلِ السرمديّ، فيرتشفُ من سكونِه حكمةَ الخالقِ وبديعَ صنعِه، فينطقُ اللسانُ بالحمدِ، وتخشعُ القلوبُ التي خُلِقت لتتفكَّر، وتُسبِّح، وتتعظ.
وفي ظلالِ هذا الجلالِ الربَّانيّ، لا تغيبُ عن الخاطِرِ خيالاتُ العُشَّاق، تتماوجُ بين مدٍّ وجزرٍ، بين قربٍ واغترابٍ، بين وعدٍ ووداعٍ.
كم من قلبٍ يُحدِّثُ القمرَ عن حبٍّ لم يكتمل، وكم من عينٍ تُناجي نجمًا بعيدًا علَّه يُخبِرُ عن المفقودين في ذاكرةِ الغياب!
هناك، تعزفُ الأرواحُ سيمفونيةَ الشوقِ على وترِ المسافة، ويصبحُ الحنينُ بردًا من وجعٍ، لا تذيبه نارُ الفقدِ، ولا تُطفئه شموسُ النسيان.
لكنَّ الأملَ — هذا الضيفَ العنيدَ — لا يزالُ يرفعُ راياتِه على نوافذِ المستحيل، يطرُقُ الأبوابَ المغلقةَ برجاءٍِ لا ينطفئ، كأنه وعدُ اللهِ بأنَّ بعدَ كلِّ عتمةٍ فجرًا لا يُخطئ موعدَه.
وهكذا يبقى اللقاءُ الأبديُّ بين الليلِ والقمرِ والخيالِ ملاحمَ لا تنتهي؛ تتجدَّدُ مع كلِّ مساءٍ، وتُعيدُ إلى القلبِ بريقًا كان على وشكِ الخفوت.
والآن أستميحكم عذرًا...
سأُطفئُ شُموعي، وأُسدِلُ ستائري وأغمض عيني في محاولة بائسة ويائسة أدرك مسبقًا أنها ستبوء بالفشل لفصل عقلي عن ضجيج الأفكار، ربما يمكنني وقتها النوم مثلكم ومثل بقية البشر.
لكنَّك ورغم كل شئ ستبقى، أيُّها الليلُ رفيقي ونديمي، كما كنت وستظل دومًا رفيقَ الشعراءِ، ومأوَى العُشَّاق، ومحرابَ الأرواحِ التي تبحثُ عن ذاتِها في رَونقك البهيّ وصمِتك المقدس.