اكتب اليك بدون تردد ولاتفكير لأن بريد الجمعة هو صديقي عند الشدة وكتف حنون استند إليها في الأزمات..
اكتب اليك مصيبتي وإن لن تنشرها يكفيني انني اخرجت ما في صدري وفضفضت حتي لا أجن.
هي ليست مشكلة بقدر ما هي حالة انتابتني.
انها صديقتي.. اختي الحبيبة.. توءم روحي إن صح القول..
كانت أميرة متوجة علي عرش قلوب كل من عرفها, خيرة, معطاءة, تراعي الله في كل فعل وكل قول.. عرفتها منذ يومنا الأول في الجامعة, وسبحان مؤلف القلوب تآلفت قلوبنا وتحاببنا في الله اختين18 عاما من العشرة الطيبة.
عاصرنا مصاعب الحياة ودواماتها وقد كانت هي دائما الكتف الحنون والصدر الدافيء الذي ما إن ارمي همومي بين يديها تتحول بقدرة قادر الي لاشيء!!
انهي كلامي معها وتبدأ هي في التحدث. تأخذني إلي عالم بعيد, ولكنه حقيقي من الكلمات المهدئة والجمل المنظمة المدروسة المؤثرة.
تتحول من فتاة عادية في الجامعة الي جدتي الحكيمة الصابرة ذات الاعوام الثمانين في حكمة القول وأمثال زمان ونصوص القرآن واقوال الرسول ـ صلي الله عليه وسلم- وكلمات الحكماء, فتعطيني النصيحة الصحيحة بدون مجاملة وبدون خوف من غضبي وتقول كما تقول امي يابخت من بكاني وبكي الناس علي ولاضحكني وضحك الناس علي.
عاصرت يوم خطوبتها وفرحها, ولادتها, ألمها, وتعبها... وهي كذلك كانت معي في كل اوقاتي..
هي حقا أختي..
ذهبت... فجأة بدون سابق انذار.. بدون ان آخذ فرصتي الأخيرة في أن أراها, اتكلم معها وجها لوجه كما كانت عادتنا.. تحدثنا في الهاتف لأطمئن عليها وعلي عزومتها التي تقوم بإعدادها لأهل زوجها هذا اليوم واتفقنا علي ان تعاود الحديث بعد الإفطار.. ولكن الله كان له تقديرات اخري ـ سبحانه وتعالي.
سقطت وسط الحاضرين في وليمة الإفطار.. شهقت شهقة واحدة, فاضت روحها إلي خالقها.. تركتنا وتركت دنيانا المليئة بالغش والمشاعر الكاذبة والكلمات الملونة البراقة الخادعة.
رحلت في سن الأربعة والثلاثين, وتركت أربع زهور أكبرهم في العاشرة واصغرهم ما زال رضيعا في الشهر السابع.
صلينا عليها بعد صلاة الجمعة اليتيمة.. وزفت الي مثواها في مسيرة غريبة.. طويلة حضرها ناس كثيرون وكأنه زفافها... دعونا لها وتركناها وعاد كل منا الي بيته ذاهلا غير مصدق.. عدت من المدافن علي عجل ومددت يدي نحو الهاتف في حركة تلقائية اتصلت برقمها حتي أشكو لها.. حتي افضفض معها عن حزني وعن ألمي.. وأفقت انني اتصل بها وانا عائدة لتوي من وداعها!!
حزينة عيوني لفراقها.. لم تجف دموعي.. حزينة أذني لافتقادي صوتها الهاديء وضحكاتها البريئة.. حزينة نفسي فقدت نصفها..
لم اكن اعلم ان لها كل هذه المكانة.. لم أتخيل أصلا ان أحيا هذا اليوم ونحن من كنا نخطط لغد فيه اولادنا معا ونمرح ونضحك علي بعضنا بعضا, من منا ستصبح عجوزا قبل الأخري؟.. أولادي يرونني أنهار امامهم ولاحيلة لي فيما انا فيه.. فيبكون وينتحبون.. حزنا عليها فقد كانت هي الأخري امهم وبدون مبالغة.
سيدي الفاضل.. اعلم ان اهلها يفتقدونها اكثر مني, فقد كانت الابنة البارة بأمها وابويها وأخويها وجدتها وكل اسرتها.. وكانت الزوجة الصالحة والأم الطيبة والأخت الحنون لكل اقارب زوجها..
ولكن أنا اجد صعوبة بالغة في ان أتقبل هذا الخبر.. أستعيذ بالله من الشيطان ومن نفسي ومن عقلي ولكني لااستطيع ان أصدق..
لا استطيع الأكل ولم اضع في فمي منذ ذلك اليوم إلا رشفات الماء وقليلا من التمرات, فحتي معدتي حزينة لاتقبل الطعام.. أنام وأنام ساعات طوالا لا أريد أن أستيقظ ولو استيقظت فجأة اعتقد انني في كابوس وأحمد الله انني استيقظت منه, ولكن انه الواقع الأليم.. جرح غائر في قلبي.. صدقت معني كلمة أن تشعر بأن قلبك يعتصره الالم, فأنا احسستها حقيقة.. زهدت في الدنيا.. لا اريد التحدث مع أحد.. لا اريد ان اري احدا, لا أجد في نفسي اي تقبل لطعام ولاشراب ولا ملبس ولازينة ولافرحة ولايوجد لدي طاقة لفعل أي شيء.. أشعر أني سأجن.. ولا اريد أن أغضب ربي في ان اظل أرددها أني لا اصدق فهي أمانة واستردها مالكها, ولكن لا يد لي في حزني الذي يسيطر علي بشكل هستيري.. هل هذا قلة ايمان مني؟ ضعف في النفس؟ هشاشة في التقوي؟.
يقتلني التفكير الذي لايهدأ وشريط الصور الذي يجري أمام عيني وصوتها الذي لم يفارق اذني.. أولادها الذين يعتبرونني خالتهم.. يتقطع قلبي عليهم وعلي يتمهم وحالهم بعدها.. كنا اربع صديقات وكم كانت تتمني لو تجمعنا كما كنا أيام الجامعة.. وبالفعل تجمعنا.. ولكنها لم تكن معنا.. تجمعنا حولها وبسببها كما كانت دائما تجمعنا عندها في بيتها ولكن لنتقبل العزاء فيها, لنودع اخلص من فينا لنا.. واحن من فينا علينا.. وأرفق من فينا بنا..
كيف سيمر علينا العيد؟ أين بهجته وفرحته؟ وأين صوتها المهنيء لي قبل الجميع؟ كانت من اكثر كلماتها الراحمون يرحمهم الله.
رحمة الله عليك ياحبيبتي الغالية, صبرني اللهم علي فراقك وقدرني علي ان ارد لك خيرك معي في اولادك..
---------------------------------------
سيدتي.. من حقك أن نشاركك ألمك وحزنك, فنحن هنا في بريد الجمعة شركاء في الألم والفرح. وحقك علينا أن نكون الآن معا, نواسيك, نحيط بك, ونمد أيادينا لمسح دموعك علي صديقتك الرائعة, غفر الله لها وأدخلها الفردوس الأعلي لحسن خلقها ورعايتها الطيبة لكل من حولها.
سيدتي.. ألم الفراق قاس, ولايخفف منه إلا الإيمان بالله, فهذا الإيمان هو الذي يجعلنا نقبل فكرة الموت, فكلنا يعلم أنه راحل, ولكل أجل كتاب, ومع ذلك تغرنا الدنيا, وتنسينا أن النفس قد يخرج ولايعود, في الوقت المحدد له, أليس هو القائل ـ سبحانه وتعالي ـ في كتابه الحكيم فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولايستقدمون.
إن حياتنا ـ طالت أو قصرت ـ رحلة بين بابين, واحد للدخول والآخر للخروج, وياحسن طالعه من كانت أعماله الطيبة تسبقه, فهو في نعيم مقيم, وأحسب صاحبتك من هؤلاء, ومن يحبها يفرح لها ويسعد بما ستلقاه وهي في المقر الأخير الذي سنذهب إليه جميعا.
موت الصالح راحة لنفسه كما قال الإمام علي بن أبي طالب, فصديقتك ذهبت في موعدها, ارتاحت, عادت إلي ربها راضية مرضية, أما أنتم, أهلها وأصدقاؤها فليس عليكم إلا القول إنا لله وإنا إليه راجعون, فالرجوع ـ ياعزيزتي ـ لايكون إلا حيث الاستقرار والهدوء. نعم الفراق مؤلم, ولكنا لانملك إلا الرضا بقضاء الله وقدره.. قد يقلقك التفكير في أبنائها الصغار, ولكن إذا آمنت بحكمة الله وعدله ورحمته, لسلمت بأنهم سيكونون في مأمن, وماغرسته أمهم في حياتها, سيجنيه أبناؤها محبة ورحمة وعطفا ورعاية ممن أحبوا أمهم مثلك.
سيدتي.. اخرجي من حزنك, وحولي هذا الحزن إلي طاقة محبة تحيط بأبناء صديقتك الراحلة, فهم في حاجة إليك, ادعي لها وتصدقي علي روحها, مطمئنة النفس أنها في مكان أفضل بأكثر مما يصل إليه خيالنا, ليجمعنا الله بها في جنته بإذنه ورحمته.. وإلي لقاء بإذن الله.