منذ قديم الأزل ونحن نصارع إشكالية شديدة التأثير على الكثيرين منا، وهي اختلاط الحكم على فعلٍ ما من خلال الايدلوجية أو الصورة الذهنية الكامنة لدى كل منا، مما يجعل أحكامنا على الأفعال ليست دقيقة، ويجانبها الصواب في كثيرٍ من الأحيان.
فإذا تقولب أحدهم ضد النظام السياسي مثلًا نجده مباشرًة رافضًا لكل القرارات الحكومية، رافعًا صوته بالنقد اللاذع أمام قطاع عريض ممن يتابعونه، ليُوجه النقد لأي إجراءٍ حكومي حتى لو كان صحيحًا، ومن المعلوم أن لكل حدثٍ وجهان، ويمكن قراءة الحدث على أيٍ منهما بسهولة.
فلو تركت الدولة القطاع العام لقال إن أموال الدولة تُهدر ولا رقيب ولا حسيب، وإن ذهبت الدولة لبيع شركات من هذا القطاع يقول إن الدولة تبيع مصر، رغم أن نظام الشركات المساهمة أساسه شراء وبيع أسهم الشركات.
وحين كان يطالب اساتذة وخبراء التخطيط العمراني منذ عقود بضرورة المسارعة في إنشاء عاصمة إدارية جديدة لإنقاذ ما تبقى من القاهرة التاريخية، يخرج علينا الناقدون من ذوي الصورة الذهنية السلبية ليتباكوا على تقاعس الدولة في ذلك، فإذا ما بدأت الدولة وبكل قوة في إنشاء تلك العاصمة الجديدة وجدناهم ينتقدون تحت أي عنوانٍ وأي تبريرات بأن ذلك خطأٌ كبير.
وإذا تغافلت الدولة عن البناء على الأرض الزراعية في أوقات عدم الاستقرار، انبرى يتهم إدارة الدولة بأنها وراء انحسار الرقعة الزراعية وأن ذلك يبدد مقدرات الناس ومستقبلهم، فإذا ما قويت الدولة وأوقفت العبث بالأراضي الزراعية وهدمت المخالفات، خرج يبكي على المظلومين -على حد قوله- من أصحاب المخالفات الذين هم ضعافٌ لا يملكون غير ما بنوه مخالفين.
وهكذا دواليك، يستمر البعض من خلال صورتهم الذهنية السلبية عن إدارة الحكم أو مِن خلال ما تمليه عليهم الأيدلوجية، يتبارَون في قراءة أي قرار حكومي على أنه الخطأ الكبير حتى لو كان الجميع يلمس نتائج ذلك إيجابيًا.
والأمر إلى هنا قد يكون مفهومًا بدرجةٍ ما، حيث أن ما تُمليه الأيدلوجيات لا يفر منه التابعين، إلا أن الغير مفهوم هو تبعية الكثيرين ممن ليسوا مؤدلجين ولا مغرضين خلف هؤلاء، وفي الحقيقة تَنصَب كلماتي صوب المتابعين لمثل هؤلاء الذين يحولون الايجابية إلى سلبية، والإفادة إلى خسارة، وإلى الذين يُغلقون أفهامهم وقراءاتهم إلا على من ينتقد القرارات جالدًا، حيث أن عليهم واجب البحث في طيفٍ كبيرٍ من الأفكار والتحليلات عن تلك القرارات التي يصورها البعض من وجهة النظر الأيدلوجية وحسب.
إن الانفتاح على جميع التوجهات، ومتابعة المتنوع من التحليلات والقراءات، يتيح لنا فرصة التعرف على الحدث الواحد من أكثر من زاوية رؤية، لتتشكل لدينا صورة ذات بعدٍ ثلاثي يوضح حقيقة صواب القرار من عدمه، بدلًا من استقاء الرؤية من زاويةٍ واحدة.