منذ سنيَّ عمري المبكرة وأنا مولعٌ بقراءة الحِكَم, وأبحث عن الحكماء وأقوالهم وأتتبع أفكارهم ومقولاتهم واستمتع بقراءتها, وأعتبر أن الحكماء من أصحاب تلك الحكَم هم من المحظوظين الذين يجدون إنتاجًا لأفكارهم وفير, ولهم من المتابعين كثير. ومع مرور الزمن أخذت أُبحِر في موضوع "الحكمة" وكيف هي تؤثر على الناس,
وكيف يصبح الإنسان حكيما بمرور الزمن, وأيقنت أن الحكمة هي إلهامٌ إلهي يمكن أن يُصقله الحكيم الموهوب بثقافات ومعرفية واسعة, وخبراتٍ حياتية مستمرة, تجعله ينظر إلى ما يراه الناس لكن من زاوية لم يروها, ووجهٍ لا يتوقعونه في غالبيتهم, وبذلك يتسم كلامه ورؤيته بالحكمة والقول الذي قد يكون في يومٍ من الأيامِ مأثورًا.
ومع كل ذلك, فقد تستوقفني حكمٌ لا أستطيع تمريرها على عقلي حين أسمعها, وأتململ حين أضطر بقبولها أحيانًا, فمثلًا حين أسمع الحكمة "إذا أردت أن تحتفظ بصديق فكن أنت أولاً صديق", فكم من الذين عاشوا أصدقاءً لغيرهم ولم يجدوا صديقًا يحتفظون به, من كثرة إنكار الجميل ونسيان المعروف من البعض, وكان الأفضل أن تشير الحكمة إلى فعل المعروف لوجه الله دون انتظار الرد من الصديق بصداقته, وأيضا "لا يحزنك أنك فشلت مادمت تحاول الوقوف على قدميك من جديد" إذ كيف لا أحزن وقد فشلت في محاولة ما, ؟ وقد يكون من الأجدر بالحكيم أن يقول لنا "لا تُحبَط إذا فشلت مادمت ,,, إلخ",
وهناك الحكمة الشهيرة "أن تضيء شمعة صغيرة خير لك من أن تنفق عمرك تلعن الظلام" وهل إضاءتي للشمعة ستلبي طموحي في أن أضيء ظلام الحياة من حولي,؟ ولانزال نردد الحكمة "من شابه أباه فما ظلم" وهل لو لم يشبه الإبن أباه يكون في حالة ظلمٍ وتعدي, ؟ أما الحكمة التي يرددها كثيرون بحسن نية أو عدمه, والتي تقول"الحذر لا يمنع القدر" فلقد أخذها الناس على جانب الإهمال في الحذر, حيث أنه لا يمنع قدرٍ مكتوب فلا داعي للتعب في أسباب الحذر, مما جعلنا نركن إلى التواكل والتهاون, إلى غير ذلك كثيرٌ مما لا يتسع المقام لسرده وأثّر فينا كثيرًا وشكل وجدان العقل الجمعي لمجتمعاتنا العربية.
وفي الحقيقة, فإن الحكيم حين يطلق حكمته, فإنه يكون على مقصدٍ منها قد لا يتلقاه المستمع, وقد لا يكون مهيأ لأن يفهم المقولة الحكيمة خصوصًا بعد مرور السنين, وهنا تقع المسئولية على الحكماء في أن تكون حكمتهم المكتوبة شارحةً نفسها مبينةً مقاصدها بشكل سهل ويسير دون التباس. وعلى المتلقي أو القاريء أيضا مسئولية, في أن يزن المعاني بتلك الحكم المأثورة بميزان الصواب والخطأ, وأن يفندها ولا يأخذها مسلّمَاتٍ لا تُناقش, حتى نصل إلى المعاني الإيجابية منها, ولننقذ ما قد تتغير مفهومه منها على مر السنين والأيام.