يمر العمر من خلالنا كعابر سبيل لم يخدش بكارة الحياة ببذور الأثر الذي يخلد ذكراه، أو يتكبد مشقة الدنيا لري نبتة الفطرة التي غرست في قاع الروح بزلال العقيدة الصافي؛ حتى يستحيل على المحن ونواميس الكون اجتثاثها من جذورها عند قيامة كل اختبار، وكأن سراح الروح من صفاد التيه مرهونٌ بتوبة وأوبة الأربعين سنة العاهرات من التمرد والعصيان، وقيامة القلب وانزعاجه ويقظته للسجود شكرًا في محراب العبودية والإقرار والاستغفار، والعكوف حبًا على باب الرجاء أربعين أخرى من طهرٍ وإنابة، حتى تتهيأ عيون الأرض المباركة لالتقاط صور الصفح، واستعادة نفحات العفو من فم الأثر في طبطبة (يوسف) ـ عليه السلام ـ على ندم إخوته وهو يعانق رجفتهم بالبشرى مهدهدًا:
(لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين)
فتضطرب الأرض لعناق خطواتنا بحفاوة وهي تتمتم في ثبات: "هيت لكم"؛ فتكتحل أعيننا بثرى الطريق إلى بيت المقدس الذي يفوح منه الطيب المعبق بأنفاس الأنبياء، والمخضب بأريج الشهداء.
انتبه، قبل أن تطأ الطريق اخلع عنك العوالق، وتوضأ بالطهر المنساب من الطينة المباركة،
ولا تنسَ نصيب التاريخ من الاعتذار، فقد نفذ صبره، وشرع يعاملنا بقسوة، ويجلد تجاهلنا له بضراوة، حتى عوقبنا بانتهاك الغاصبون لعزتنا وأصولنا، فجرت بنا أمواج الحيرة نحوه، وشرعنا نتشبث بروائحه؛ فلفظنا بشدة، وفرض علينا أن ندفع ثمن لهونا عنه وعبثنا به قطعًا من أرواحنا، للوصول إلى ذاتنا، واستعادة هويتنا الضائعة في أرض التيه.
تأمل قول الله عز وجل:
"يا شام أنت صفوتي من بلادي، أدخل فيك خيرتي من عبادي، وإليك المحشر"
بيت المقدس عاصمة الشام منذ زمن لا يعلمه إلا الله، وباركها الله في كتابه فقال جل في علاه:
(ونجيناه ولوطًا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين)
أرض الشام، يحدها غربًا موج ساحرٌ رقراق يتهادى من أعماق البحر المتوسط "بحر الروم"، ومن الشرق البادية من إيلة إلى الفرات إلى حد الروم، ومن الشمال بلاد الروم "تركيا حاليًا"، ومن الجنوب حد مصر وتيه بني إسرائيل، وآخر حدودها مع مصر رفح، وهي الآن الأرض التي تضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن.
فأينما يممت وجهك، وحيثما وليت قلبك غشيتك البركة من كل اتجاه؛ فهي موطن الأنبياء ومنها بعث الله أكثرهم، وحظيت ترابها بالبركة، فكثر خصبها وثمارها وأنهارها،
قال الله جل في علاه:
(سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله...)
الأقصى العزيز، ثابت في إباء، رافع هامته المقدسة في جلال تنحني له الجباه والقلوب..
الأقصى، الشاهد الأوحد، والحاضر الأدوم، والأنيس الأوفى الذي لم يستجوبه أحد!
الذي أقامه آدم عليه السلام بعد إقامة المسجد الحرام بأربعين سنة، ثم تعهده بالرعاية والقيام ابراهيم عليه السلام وذريته..
فعلى هذه الأرض المباركة، رزق إبراهيم عليه السلام بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب عليهم السلام.
وعلى هذه الأرض المباركة رزق يعقوب (إسرائيل) بأبنائه الاثنى عشر (ومنهم الأسباط) الذين كان من بينهم أئمة وحكام على بيت المقدس.