ما بال الأرواح فيكِ يا عزيزة طُرحت مقهورة على ناصية الخذلان، وأبت كل العيون المتلصصة إيوائها؟!
تفاصيلك الممتلئة بزخم العزة والصمود ولون الجهاد تتفصد من خضاب شهدائك لتحقن نفسها في قلوبنا المغشي عليها طويلًا في بئر الشرود؛
فتستفيق على صرخة أب تائه موتور، قد قفز الفزع في عينيه، وسكن ملامحه الذهول، وتَخطّفه ألم الفقد وضراوة النهاية، وحلا الذكريات حين تختال أمام عينيه، فتسقيه الوهم شرابًا آسنًا في صورة حياة، ولقاء استبد به الظمأ في كاسات المستحيل، وهو يتفرس ملامح ابنته المشربة بنور البراءة، والمتوجة بعز الشهادة،
ميس، حورية يزدان بها الرداء الأبيض، تنير بداخله كبدرٍ ليلة تمامه، تعانق جيدها عناقيد الصبر، ويكلل هامتها فتات المسك؛ فيقفز قلب والدها من مكانه وهو يضمها بعينيه، ويقبلها بقلبه، ويمنحها طلة الوداع أخيرة مكتظة بتفاصيل تسعة أعوام خضر من ذكرياتها معه، صارت تتساقط من أعماقه كأوراق الخريف.
ميس في الصف الثالث، طفلة تضج بالمرح والنشاط، تغطي بحيويتها ودلالها على استفاقة الشمس من سباتها، وهي تستيقظ مبكرا لتصنع الدفء والبهجة والفطور لأسرتها على خيوطها القرنفلية الساحرة،
تساعد أخويها الصغيرين (أسامة وفؤاد) في ارتداء ملابسهما، تمشط شعرهما الفاحم بدفء قلبها، وتصب عليه من طيب نقائها، ثم تتغنج بصوتها الملائكي الهادئ قائلة لأبيها في دلال:
يا بابا قبل ما تطلع ع الشغل بدي أعمل لك قهوتك، أنا أشطر من ماما، يا بابا أنا قهوتي أزكى من ماما.
فيمنحها نظرة فخر تقر عينها وقلبها وترضيها قائلًا:
ما أحلاها قهوتك
طبعا أزكى والله من قهوة ماما
والآن...
رحلت ميس والحياة، وبدأ الأب يجوب شوارع الفقد والوحدة وهو يهذي قائلًا:
ميس مش ميتة؛ لأن وانا جايبها اطلعت فيا وقالت يا بابا
ميس ملكة
ما أحلاها
هادي أعز من أخواتها عندي
ميس من وهي صغيرة تشتغل مع مامتها في المطبخ
وتعمل الشاي والفطور والأكل الساخن
ميس بتلبس أخواتها الصغار
ميس راحت
ميس راحت