الشر بلا عقيدة تَرْدَعه كالنار، كلما أطعمته من فُتات الهوى ورغائب النفس الأمارة، تضوّر جوعًا، وهاجت طينته ثائرةً: "هل من مزيد؟!" وصاحت أشجاره في دهاليز النفس كالنائحة المستأجرة تلطم وجه الخير وترجُمُه بأقذائها، وتعيث في أرضه فسادًا حتى تجتثه من أصوله وتطمس ذكراه!
في هذا الكتاب، يرسو بنا الكاتب على ضفاف صفحة مرعبة من واقع أشبه ببحرٍ لُجّيّ تغشاه ثلاثون ظلمة من ظلمات النفس التي استوطنها الشر حتى تلاشى معدنها في غياباته، من خلال سرده لثلاثين قصة حقيقية من قلب الواقع لم يخامرها خيال، لكنها قريبة للمحال، صاعقة للخيال، مقيدة الواقع في سجنها الظلوم!
سِيقت شخوصها إلى الكاتب، واستقروا أمامه ـ على منصات محاكم الجنايات ـ كأنهم خُشُبٌ مُسَنّدة، تُربك عقلك ليخرج عن رتابته، ويُعمل فكره في التعمق في أسرار النفس وعوالمها الخفية،
وفي كل طلة من فكرك على ظلمة من الظلمات الثلاثين؛ ترتعد أوصالك، وتشخص عيناك، وترى النبضات سُكارى وما هي بسُكارى، ولكنها من هول الحياة صارت قيد الجنون، فتُقلِّب طرفك في السماء بحثًا عن سربال الأمان الواقي الذي يحتال عليه القلب حال الفزع ويستجديه ليتلبسه؛ فتهدأ عربدة المشاعر المرتجفة بلا هدًى داخل أمواجه!
كانت اللغة في إعجازها، وبلاغتها ورصانتها، وجزالتها هي قبس النور الذي يأخذ بقلب القارئ إلى النار وهي ترتل عليه: "كوني بردًا وسلامًا"، فيتنقل بين ظلمات الحكايا الثلاثين دون أن يمسّه طائفٌ من البؤس، أو تلفحه ندبة تحيله معاقًا قلبيًا!
راقتني جدًا (اللغة) في بلاغتها، وبراعة الكاتب في حسن انتقائه للكلمات التي تصل بالعقل والفهم إلى المعنى المقصود دون تصريح، وكأن اللغة فتاةُ مدْيَنَ تمشي في القلوب على استحياء!
السرد..
رائع، صيغ بحرفية كبيرة تبعث الإنسانية من أجداث النسيان، وتسلسل ممتاز، وحبكة رائعة، ونظرة إنسانية للنفس التي حادت عن الفطرة؛ لأن صاحبها في النهاية إنسان، وتحسس اللطف في سبر أغوار الضمائر، والبحث عن الدوافع التي أودت بها إلى الهاوية.
في مرافعات المستشار الكاتب بهاء المري -التي قُدِّر لي متابعة بعضها مؤخرًا- أجد أنه قد خرج عن النص، وصنع فنًا آخر ولغة جديدة في أدب المرافعات تكسوها هالة من الجلال المزدان بالرحمة، مصبوغة بصبغة الله، مضبوطة بميزان العدل؛ لأنه أخذ عمله بقوة، وتناوله وهو راغب فيه، فعاش في قضاياه، ومشى فيها بالحكمة.