تعرج الروح إلى ربها بعد رحلة سفر يقطعها الكاتب الإنساني داخل ميناء الوجود وأدلجة الحياة، تاركًا إرثه يعيش فينا، ونتوارثه عبر الأزمان؛ فأن تلتقي بحرف إنساني ولو بين دفتي كتاب أو بين جلاميد الأجهزة الإلكترونية المتحجرة؛ فأنت تنهل من نعيم الجنة، فترشفه على مهل؛ خشية أن تنتهي رحلتك معه، فتعود من أرض المنى محملًا بالأحزان والآلام، وكأن كاتبه قد مات فيك الآن، فتربط على قلب وجعك بكل ما غرسه فيك من معاني الحق، والخير، والحب، والجمال، وكأنه وجه الصباح الذي يطفو بالكون حين تغشاه الآلام؛ فيخفف من مساحة العناء والشقاء الذي بسط نفوذه على الحياة!
حين يصير القلم عصا سحرية مباركة، تهش بطيبها على أحزان الحياة، لحظتها ستتحول إلى معزوفة صادقة من الإنسانية، وكل القيم النبيلة التي تشد من أزر الإنسان، وتفجر فيه ينابيع الأمل والسعي والاجتهاد.
قلت يا سيد المعاني في كتابك "عاشوا في خيالي":
أننا "ريشة في هواء الكون تحملها رياح الأقدار، وتتحكم في مصائرها، وتحمل لها السعادة أو الشقاء"
قد كنت يومًا تلك الريشة التي نالت منها دروب الحيرة، وضل سعيها بين دهاليز الحروف أثناء رحلة بحثها عن هويتها الغارقة في عالم الإنسانية؛ فحملتني رياح الأقدار، وألقت بي على أعتاب غلاف لكتاب أدبي يتحدث عن سيرتك
كتبه أستاذي الفاضل #حاتم_سلامة ، كل مالفت انتباهي وقتها، واستحوذ على عقلي وقلبي تلك الكلمات المحفورة على الغلاف:
"صاحب القلم الرحيم، رحلة في حياة الكاتب والإنسان"
ظلت التساؤلات تدور دورتها في رأسي..
أيعقل بعد كل هذا السعي، الذي وغالبًا ما كنت أعود منه بخفي الخيبة والحسرة، حتى انتبذت بروحي مكانًا قصيًا بعيدًا عن الدنيا والناس، وصعد اليأس داخلي، فصنع لنفسه عيونًا يتربص من خلالها على كل نبتة أمل فيني؛ فيقضي عليها ويفتر عزيمتي، أيعقل أن أعثر على الإنسانية، ولو كانت روحًا مشطورة في رجيف الحروف، وضجيج الورق؟!
خرجت من أفكاري وأنا كلي إصرار أن أعرف من يكون ذاك الكاتب الإنساني؟!، عذرًا، لأني لم أكن أعرفك، فلم أقرأ لك!
وقُدِّر لي حضور الندوة التي كانت عن مناقشة الكتاب الذي خطه أستاذي عنك بجمعية هيئة خريجي الجامعات. سمعت من الجميع عنك، من أنفقت في جوارهم سنوات العمر والعمل على طاولة الحياة، ومن تقاسموا معك الحب في حرف وكتاب، لحظتها شعرت أن الفرحة تطل على عالمي بعد غياب، وكأني أحرزت انتصارًا عظيمًا في الحياة؛
لأني عثرت على قلم إنساني متفرد أبيّ، فنهضت بعزم الكون لأبدأ رحلتي الأثيرة مع قلمك.
دخلت أرض الأحزان، تاركة خلفي اللغة والبيان الذي أذوب في وجوده، ومصطحبة معي الروح؛ بحثًا عن الإنسان في حرف الكاتب، لأرى كيف كان يتعامل مع هموم الناس ومشاكلهم، ويكرم قلوبهم، ويفتق علتهم برحمة وحكمة، كثيرًا ما كنت أفكر في الحل وأتوقعه قبل أن أقرأ الجواب، أحيانًا نتفق وقليلًا لا يحالفني الإدراك.
ثم ولجت العالم الحقيقي لك؛ لأرى كيف أعطي الصباح فرصة!، فشعرت أني بين خفقات الحروف، ورضاب المعاني منذ أمد!
تغزوني الأفكار والمعاني، وتأخذ بعزوفي واغترابي، وزحام العالم المكظوم فيني؛ لأطلق سراح قلمي من بروازه المؤطر بريشة الكفاف، وحروفي القاصرة على معنى بعينه إلى ضجيج الحياة، لعلي أتمكن من تأدية رسالتي، أو ترك أثر طيب على جبين الحياة.
القلم الإنساني، حُرّ، عزيزٌ، أبيّ، لا تعرفه الحياة، فتغره بترفها الصارخ أو تذله إليها، ولا يعرفه الموت فيكسره أو يضره، بل يحيا حاملًا رسالته على كف الروح حتى تلفظ الإنسانية أنفاسها الأخيرة مع آخر نبضه في عمره.