تستند (مي) بكل خوائها على مقعد المحنة المدلل!، المسكون خشبه العتيق بروحها، والمشرب بخلاصة عمرها وصبرها، فلطالما تأوه طويلًا لألمها الذي ظل يتلذذ بحرمانه من الراحة. بعيونٍ ذابلة هجرها الوسن، وعربد بمآقيها القلق، وأقام حفلات سمره على نزف وجعها، وشرع يحتسي مع الألم نبيذ الأرق، ويتجاذب معه أطراف النجوى على مهل.
صرخت مي بنشيج معاناتها هاذيةً لقلب ذاك الزائر الآتي من عمر الصبا:
إنهم يتربصون بي ليقتلونني، وأنا لم أصنع شيئًا!
نظر إليها مهدهدًا ثم قال:
ـ من هم؟
صرخت متلعثمة:
إنهم هناك، وأشارت إلى المنزل المواجه لنافذتها.
بقلبٍ تعاظم بداخله شعور التوتر والقلق يهدئ (العقاد) من روعها هامسًا:
ـ إن المنزل هجره سكانه، وليس به ما يضرك.
ترتعد فرائصها، ويغشاها الخوف، ويتلبسها الهلع، وتقبض على عروق رأسها صارخةً:
إنهم مختفون، إنهم أشباحًا مخيفة تتلوى، كمقاصل الحزن الراقصة على أوتار البيانو وهو ينزف من شدة الألم!
أنا أبصرهم من حين لآخر، وأنت لا تراهم.
سرت برودة الرعب في أوصاله، وحقنته برجفة الهلع حزنًا على ذاك الوجه الرائق الذي اتشح بليل الجزع الأليل، ثم تركها وذهب إلى المنزل مخاطبًا إياها من ظمأ الشرفات؛ ليقنعها أن المنزل لا يسكنه أحد، ولكنها لا تنصت ولا تقتنع!
ثم تطلب أمامه قدحًا من الماء تروي به رهقها، فلما أحضره الخادم، أبت أن تشربه خشية أن يكون به سم يقتلها، فأخذ العقاد الماء وشربه ليقنعها أن لا شئ فيه ولكنها كذلك لم تقتنع!.
يا (مي) أعلم أن وصلًا بيننا لم يكن، ولكن أعلم أنكِ كنتِ تعلمين تمامًا أن القلوب لا تضل طريق أحبتها أبدًا، ولا تخشاه، بل تراه حرمًا آمنًا لا يدخله ريب، ولا يقطنه شك، ولا تعبر من خلاله حيرة، وإن ذهب العقل إلى حال شتاته، فالقلب يستحيل أن يحيد عن قبلته واستراحة أمانه، أم أن ذاك الزائر الذي ضج قلبه بذكرك لم ينل في قلبك منزلًا من حب؛ فتأمنين بوجوده وتثقين بفعله، أم لهذا الحد كان في مكان قصي عن قلبك؟
أم انه اليقين الذي غاب عنكِ يا مي؛ فآواكِ الهلع، واحتوتك الظنون، ثم ألقت بكِ على شفا جرف هارٍ من الضياع، ومابقى غير إرث من دموع لا تنام ناله كل من حظي ذكرك في قلبه بمقام.
يا مي، اليقين سلاح المحاربين وقوتهم في معركة الحياة، فلن يُهزم قلب اليقين سكنه، ولن يضل عقل اليقين مذهبه، وسلام على قلبك يا مي.
--
من وحي مقال دموع العقاد المشهد الثالث. لأستاذي الفاضل حاتم.سلامة