يراود القلم عيون القلب عن مآقيه المكتظة بالحنين عودًا إلى الماضي؛ فتُسبل عليه دموع الشوق، وتجري به في أمواج العمر الكامن في ذاكرة الأيام؛ ليقتص منه تلك اللقطات الطفولية البريئة الممتدة في باطن الروح كاليقين الذي ينسحب أمامه أي شك، والواقع المنزه عن أي ريب، والنقاء الذي يجلو العقل، فتشعر وكأن تلك الومضات الخاطفة من شريط ذكرياتك مع ميلاد القلم والحرف وكأنها آتية من أعماق الزمن، وفراق طويل، وسفر بعيد يموج ويتعطش لشوقٍ طال بحمله الصبر.
حملني القلم على بساط اللهفة لرحلة خلابة داخل ذاكرتي المليئة بالتفاصيل، أقلب في زواياها بعيون تائقة لتلك السنوات الأولى من عمر البراءة، حين كنت طفلة في الثامنة من العمر، أتردد على مكتبة المدرسة بلهفة وحب، فأستعير الكتب والقصص الدينية حيث كانت هذه بدايتي مع القراءة، أذكر أنني ذات مرة جعلت الأستاذ المسئول عن المكتبة يقلبها رأسًا على عقب، لأنني كنت أريد كتابًا اسمه "ابراهيم يبحث عن الله" حتى عثر عليه، واستعرته، وظللت عاكفة على القراءة في الكتب الدينية حتى التحقت بالإعدادية وبدأت أقرأ دواوين أمير الشعراء (أحمد شوقي)؛ فأمسك قلبي بالقلم، وكتبت أول ما نطق قلبي بالحرف ل (ربي) تحت عنوان "رسائلي إليك ربي"، أحببت الشعر وكتبته، لكني لم أستطع إجادة وزنه أو دراسة علم العروض. انقطعت فترة لا بأس بها عن القراءة والكتابة عدا الكتب الدينية، كنت أحب القراءة للإمام (ابن القيم)، فقرأت ما تاقت إليه نفسي من مؤلفاته، ومن الغرائب أني حين عزمت على قراءة كتاب (روضة المحبين ونزهة المشتاقين) قرأته من النهاية للبداية، مع أني أحببت الكتاب جدا وحفظت منه الكثير. ذات صدفة، مرت بعيني تلك الكلمات لأستاذي مصطفى صادق الرافعي:
"أريدها لا تعرفني ولا أعرفها، لا من شئ إلا لأنها تعرفني وأعرفها.. تتكلم ساكتة وأرد عليها بسكوتي. صمت ضائع كالعبث ولكن له في القلبين عمل كلام طويل"
نزلت الكلمات على قلبي كهطول الغيث على أرض جدباء نال منها البعد عن القراءة والقلم حتى صدئت من شدة الخرس!
أو كالعالق غرقًا في عمق البحر، يشتد به العطش، وهو بين جنبات الماء، ولكن الماء المالح لا يغيث لهفان ولا يروي ظامئ، كما الشوق الجارف في حضرة الغياب لا يقر قراره ولا يستقر بقلب ولهان بل دائمًا على سفر، يتنقل في حقائب الغربة المكتظة بالحنين. وكذلك كنت في مِلح الحياة وأتراحها وأفراحها أغرق وأنا عن قلمي في غياب.
نفضت عني كسل العمر وأزماته، وانطلقت بنهم أقرأ كتاب "السحاب الأحمر" ذاك الكتاب الذي حفظته بقلبي وعاش به، ومنه عدت لمرافقة القلم، قرأت للرافعي، والمنفلوطي، وبعض الروايات الحديثة، والآن بدأت رحلتي مع أستاذي الكاتب صاحب القلم الرحيم (عبد الوهاب مطاوع).
قراءتي نادرة جدا جدا، لكني مؤمنة بأن الإحساس حين يتمكن من القلب ويطغى عليه؛ يخلق لغة تخصه وحده ويتفرد بها، وتجعلك تتساءل بأي قلبٍ كُتبت، ومن أي نبض خُلقت، وبأي بيان سُطرت، وكل ما قُرأ بالقلب لابد وأن يمكث بالقلب حتى تأذن له الروح بميلاد جديد.