" إن ميراثي منه أقدس من ميراثي الأبوي؛ لأنه ميراث في الروح بصفوة الرسل والقديسين"
الإمام (محمد عبده) لأستاذه (جمال الدين الأفغاني)
اثنان مشى الطريق في دمائهما وجرى في عيونهما رغبةً منه؛ فاتصلا والتحما وقامت قيامتهما، فقطع في جوانحهما مسافة لا بأس بها من الجهاد؛ لكن قطاعه كانوا ماهرون في اعتناق الظلام، والفتك بكل من حاول تبديده وشرع لاستكمال مخاض الحقيقة من رحم السراب؛ فلم يُجدِ معهم إصلاح، ولم يعد يرجى منهم نفع؛ فاستدعى العمر الإمام محمد عبده وأَسَرّ إليه بحديثٍ طويل خرج منه وهو عازمًا على صيانة جهده من الضياع دون جدوى، مما جعله يستقل عن طريق أستاذه، الذي أشعل فيه جذوة الاجتهاد والهمة التي كانت متأصلة فيه، وأيقظ فيه ملكات فكره، وحرك قدراته الكامنة؛ لينطلق قدر وسعه واستعداده وطبيعته، وليس تابعًا خلق ليكون نسخة من أستاذه، فيعمل على غراره، أو يرى بعينه وكأنه فقد نصيبه من الاستقلال وتخلى عن حظه من الاجتهاد والإبداع.
فقد آمن الإمام محمد عبده بأن فجر النهضة سيبزغ بعدة العلم، وتربية القلوب على الصلاح من المهد، بدلًا من ضياع أوراق العمر سدى في تلك المحاولات العقيمة لإصلاح نفوس جبلت على التمرد والعصيان
وقد كان يقول لتلاميذه الفقهاء والأدباء : إن السياسة ضيَّعت علينا أضعاف ما أفادتنا، و«إن السيد جمال الدين كان صاحب اقتدار عجيب لو صرفه ووجَّهه للتعليم والتربية لأفاد الإسلام أكبر فائدة"، فكانت رؤية الإمام أن التعهد والقيام بتربية عدد من التلاميذ وتعليمهم وتوعيتهم على مافيه صلاح أمر دنياهم وآخرتهم لهو الفضل العظيم، فلا تمضي عشر سنين إلا ويكون لديهم عدد من التلاميذ الذين يقصدون قبلة الفلاح والصلاح، والسير في الأرض لنشر الإصلاح المطلوب، فينتشر أحسن الانتشار، فقال: إنما أنت مثبط».
شرع الخلاف يتجول داخلهما بخطوات بطيئة محاولًا طمس معالم الرحلة التي قطعاها داخل ميناء الروح
فكان الإمام كلما راسل أستاذه؛ رد عليه رسالته بالجفاء والتقريع؛ مما اضطره لقطع سبل الوصل
وكأني أشعر بالأستاذ حين سلكت الرسائل طريق الهجر ورحلت إلى حال سبيلها؛ انفطر قلبه وأخذته العزة بالوصل الذي تقهقر منهزمًا في خبايا الروح بعدما كان جليًا كوضح النهار ومستقرًا على ملامح كل حي، قد صار مقنعًا ببرقع الخوف!
لِمَ لم يفسح الأستاذ المجال لصبا الإعذار أن تمر من خلاله ولو للحظة؛ فيتحسس من نفحاتها أن الخوف كان وجلًا عليه هو؛ فقد تجرعا سويًا المرار بألوانه؟!
لكن على صدر النهاية لفظت الحقيقة أنفاسها الأخيرة من فم الأستاذ جمال الدين الأفغاني وهو يعترف أنه أنفق عمره هباءً منثورًا في أدراج الوهم طيلة حياته، وأن التربية ونشر الوعي أجدي، وأعلن تفوق تلميذه عليه.
سلام عليهما، وعلى الصادقين ألف سلام.