مرعبة جدًا، تلك اللحظة التي يستيقظ فيها المرء من طمأنينته على نوبات الغياب التي تجتاح كيانًا عزيزًا لديه وهو ينازع سكرات اليأس وحده؛ فتقفز الحيرة في عينيه، ويجري القلق بين مائها، فيطول الطريق على وفيّ حمله الصدق لتكبُّد ألم الفضول للوصول إلى ذروة الاطمئنان على صاحبه، بينما الآخر، قد بنى في قلبه مسجدًا لذلك العدو اللدود والصديق الوفي(الحزن)؛ ليعتكف بأركانه، ويقيم معه شعائر الوجد التي لا تنهار أبدًا كل ليلة.
هل كان يظن وهو يُفضي بذات صدره إليه، ويتجاذب معه أطراف الألم حتى يثمله، هل كان يعتقد أن في شهقاته السلامة، حين منحه صك العبور إلى صمته، وطوى مسافات الفكر بينهما، وزحام البعد للدرجة التي يلغي ويهدم فيها وجود الصلات في حياته؟!
لما اشتد لهث الكيد وراء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هاجر ولم يكن وحده، بل كان برفقته أبو بكر الصديق
ـ رضي الله عنه ـ مع أن معية الله ترافقه، ولما شعر النبي
ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدبيب الخوف يلتهم قلب صاحبه؛ ربت على قلبه قائلًا:
"يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما"
(إلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
كفى بالمرء نصرًا وجبرًا أن تخصه معية الله، وأن يجد في المحن قلبًا يقتسم معه آلامه ويربط على قلب وجعه قائلًا:
(لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)؛ فتهون الدنيا بأتراحها وأوصابها.
وأنت رائع في كل كبوة نفذ من خلالها الحزن إلى قلبك، وحاول أن ينتبذ به مكانًا قصيًا؛ حتى لايمكن لأحد الولوج إليه، فيتم إزهاقه وهزيمته، ومشى في روحك ليغرِّبك ويُغيّبك عن دنياك؛ فأرهقته أنت بجهادك وتحرير روحك من صفاده بالعكوف على باب الرجاء،
ثم بسطت قلبك لمن تطيب روحك في جواره، وتأمن نفسك في معيته.
أنت رائع حين عرفت قدر نفسك، وآمنت ببشريتها ووسعها فلم تثقلها بما لا تطيقه، ولم تحملها فوق طاقتها، بل اتخذ قلبك القرآن خليلًا، ولم تَعْدُ عيناك عن التزود من رضاب القدوة؛ فشددت أزرك بمن يؤنس وحشة قلبك، وأشركته في أمرك؛ فقرّت عينك، وشُفيت روحك؛ فهنيئًا لقلبك، وحسن حياة وقرار واطمئنان ورفقة.