فلسفة العقاد كقوافل السحر التي تسري بنبضات القلب؛ فتقتحم خلوة أفكارك دون سابق معرفة، فتنزعك من تيهك، وتلف رأسك بعمامة الفكر، كلما خرجت منها قسرًا؛ تهزمك عيناك بجفونٍ ثقيلة تأوي أطنانًا من الوله، وروح سكنها التيم، فلا تسطيع النجاة من الغرق في دهاليزها ولا تريد!
ويستميلك السهاد زائر الليل ورفيق النهار، ويقيم بك، ويرفع راية وجوده بداخلك؛ معلنًا عن قيامة ثانية لفلسفة الروح.
حين يتلاقى قلبك مع فكره، تشعر بصمود السطور رغم رجيفها وكأنها حراس للعظمة والجلال، فتتهادى الكلمات من خدرها على استحياء تضخ بالحياة، وتعكس روح كاتبها وتفاصيله، فينطبع أثرها في نفسك طيلة العمر، ويخلد ببقاء الأعمار !
في رياض كتابه (الفلسفة القرآنية) يفرد لك في جنانه منزلًا، كلما انتهت بك الخطى فتح لقلبك بابًا من الوصل؛ تتزود منه حتى تكتفي، ثم قبل أن تستهل مآقي الوداع معزوفاتها في كرم، يلقي في قلبك تعاويذ الأمنيات، ويأخذك لبستان آخر من نعيم العلم.
طال بي العكوف على باب الأخلاق وهو ينثر الجمال على القلوب منبهًا أن الأخلاق لا بد لها من ضابط، وأن القوة تكمن في العزم، والتبعة، والمسؤلية، وضبط النفس، وترويضها على الأفضل من الخصال، وملك زمامها، والقدرة على ردها وكبح جماحها وليس المضي معها في كل ما تشاء، والانطلاق معها كالآلة، واتخاذ الوازع منها،
مثلما فسر قديمًا الفيلسوف الانجليزي (هوبس) كل خلق حميد بأنه قوة أو دليل على قوة!
ولكن هذا غير صحيح
فالحلم في غير موضعه ضعف،
والجزع أحيانًا لازمًا لسلامة النفس وإن نفر منه الجميع،
والصمت حال الخلاف حب، وحرص، وإبقاء للود عند من يستحق، ويملك قدرًا كافيًا من الوعي، وفي احتواء المكلوم نبل، وفي احتضان الخطاء حال رجوعه مقرًا بذنبه دون حتى أن ينبس ببنت كلمة لطف، لكنه غباء وسفه أمام من تأخذه العزة بالعند، ويتلبسه جنون الكبر،
وعند استفزاز الأحمق واللئيم ترفع، لكنه يصبح شيطانًا أخرسًا إذا كان عن الحق؛ فانتبه لنفسك وكن وازعًا لها عن كل عمي.
وهكذا...
لذا فالمقياس الذي لا بد من الرجوع إليه في جميع الأحوال هو صحة النفس، وسلامها، وصحة الجسد، والحفاظ على الكرامة الإنسانية، والتصرف بما يليق بها، كي نتمتع بأخلاق سوية صحيحة بعيدة عن التخبط على غير هدى؛ فتتهشم النفس وتصدم إذا حملتها القوة العمياء،
وبهذا الضابط يقاوم الإنسان كبد الحياة، ويتحدى فرائض المجتمع كله إذا فرضت عليه ما يأنفه، وينفر منه طبعه، أو يقتل فيه جذوة الشغف، وحاسة الذوق، والتطلع إلى الجمال والكمال، فيعلو بإصراره وعزمه على المجتمع في كثير من الأحيان، ويخلق آدابًا جديدة تشع جمالًا وعزة وجلال
فالشخصية الإنسانية تحملها القوة النفسية التي هي أرفع من القوة الآلية، والخلق الجميل الذي مصدره هو "عزم الأمور" كما سماه القرآن الكريم.
يقول (العقاد) في كتابه "هتلر في الميزان":
"إن مقاييس التقدم كثيرة، يقع فيها الاختلاف والاختلال.. فإذا قسنا التقدم بالسعادة فقد تتاح السعادة للحقير، ويحرمها العظيم، وإذا قسناه بالغنى، فقد يغنى الجاهل، ويفتقر العالم. وإذا قسناه بالعلم فقد تعلم الأمم المضمحلة الشائخة، وتجهل الأمم الوثيقة الفتية. إلا مقياسًا واحدًا، لا يقع فيه الاختلاف والاختلال وهو مقياس المسؤلية واحتمال التبعة، فإنك لا تضاهي بين رجلين أو أمتين إلا وجدت أن الأفضل منهما هو صاحب النصيب الأوفى من المسؤلية، وصاحب القدرة الناجحة على النهوض بتبعاته، والاضطلاع بحقوقه وواجباته ولا اختلاف في هذا المقياس كلما قست به الفارق بين الطفل القاصر، والرجل الرشيد، أو بين الهمجي والمدني، أو بين المجنون والعاقل، أو بين الجاهل والعالم، أو بين العبد والسيد، أو بين العاجز والقادر، أو بين كل مفضول وكل فاضل
على اختلاف أوجه التفضيل "