ربط الله على قلب الشوارع، بعدما أهينت الأمانات، وطُرحت على ظهر الأرض أورامًا وأوجاعًا، تنتزع حقها من الحياة بالضعف تارة، والاستجداء تارة، والسلب والعنف تارة أخرى؛
نقمة على ضميرٍ غائب من روح مجتمع مسجون بين قضبان اللهث، والبدن الكسيح، وانتقامًا من راعٍ تخلى عنوةً، أو جرأةً، أو سفاهة؛ فصارت جروحًا تثعب في قلب كل من كان له حس، ودليلًا وحجةً على عجزنا وعزمنا الوهين.
سكان الشوارع، أطفال في عمر الورد، عيونهم جائعة للضمة، وقلوبهم صحراء ظمآنة للونس والمأوى، ونفوسهم تواقة للعلم، لكن ضاقت بهم السبل، وهم الحيارى المنبوذين في نظرات البعض، المشردون يتمًا بإثم العقوق الذي أصاب راعيهم، فاليتيم ليس من مات أبواه كما قال الشاعر أحمد شوقي:
ليس اليتيمُ من انتهى أبوَاهُ من … هَمِّ الحياةِ وَخَلَّفاهُ ذليلا
فأصابَ بالدنيا الحَكيمةِ منهما … وبحُسْنِ تربيةِ الزمان بَديلا
إن اليتيمَ هو الذي تَلْقَى له … أماً تخلَتْ أو أباً مَشْغولا
انتشروا في الأرض كالجراد، يسألون الناس إلحافًا، ويتوسدون الثرى، ويلتحفون بالسماء، يحترقون بقيظ الشمس، ويتجمدون بزمهرير الشتاء، ويشقون ويتصدعون في مناكب الأرض بلا هدف ولا مفر، يرافقهم العوز والعتمة، ويكنسون بشقائهم ذاكرة الشوارع، ويحفرون بؤسهم، وتمردهم، وعاصفتهم في ذاكرة جديدة منزوعة الخير، رغم أنهم ولدوا بين ذراعي الدنيا منتسبين للفطرة النقية، ومنتميين للإنسانية، ومن المحتمل أن نجد فيهم من يمتلك ذكاءً فائقًا يفوق أقرانه لو تم توجيهه في الوجهة الصحيحة؛ لأبهر العالم، ولكن للأسف تستغل قدراتهم وعقولهم صوب الخطأ، وما من مرشد، ولا معين، ولا رادع لهم.
في بداية القرن التاسع عشر، بعد أن تولى (محمد علي) حكم مصر عام 1805، واستتب له الحكم، تفرغ لإعادة إحياء أولاد الشوارع من بئر الضياع الذي وُئدت في باطنه براءتهم، وضاعت أعمارهم، فأرسل رجاله يجوبون الشوارع بحثًا عنهم، لتعليمهم، وأتى لهم بأعظم المدربين الفرنسيين في شتى المهن، والحرف اليدوية، ليعكفوا على تدريبهم، وبمرور ثلاث سنوات خرج للعالم بأعظم الصناع المهرة، الذين يجيدون جميع الحرف اليدوية، واللغة الفرنسية والعربية، واستعان بهم في أمور شتى، ونجحت فكرته في خلق حياة أفضل من العدم، وبناء نفس ومكان أرقى بعيدًا عن الفوضى.
والإمام (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، محقق العدالة الاجتماعية، كان يجوب شوارع وأسواق المدينة وسوطه بيده، جاهزا لمعاقبة المفترين فورا، وهكذا ظهر المثل "أن درّة عمر (سوطه) مهاب أكثر من سيف غيره". ولكن مع كل هذا، فقد كان رقيق القلب، وسجّلت له أفعال من الشفقة والرحمة لا تعدّ مثل مواساة وتخفيف حاجات الأرامل واليتامى.
ليتنا نتبنى فكرة الإصلاح والمساندة ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، وكما علمنا رسولنا العظيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الخير باقٍ في الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فجميعنا يرفل في فضل الله ونعمته، ولا يوجد على وجه البسيطة إنسان إلا وقد اختصه الله بميزة ومنحة لن تكون لغيره، وكأنه أفرده بها وحده، فلنجعل من تلك الميزة والنعمة زكاة العمر والروح والعافية عن اكتمال نصاب الفضل والخير والنعم؛ فنقيم بها حياة روح تتأرجح على حافة الهاوية كل لحظة، وإن ضنت أنفسنا، وقصرت أيدينا؛ فلنتخذ من ألسنتنا
ديمات رحمة وجبرًا، فلا تنطق إلا خيرًا، ولا ترسل وجوهنا إلا بسمات الفرج والأمل بشريات.