الاعتذارُ ليسَ علامةَ ضَعفٍ، ولا هو إقرارٌ دائمٌ بالخطأ، بل هو لُغةُ القلوبِ حينَ تَضيقُ العباراتُ وتتوترُ المواقفُ، ولعلَّه أرقى ما يُهديهِ الإنسانُ لِمَن يَعني له شيئًا. غيرَ أنّ الإفراطَ فيه يُجرِّدُ الكلمةَ من معناها، ويُشيعُ في الروحِ شعورًا بالخلل، فالكثرةُ هنا لا تُشبِهُ الكَرَمَ بل تُشبِهُ الاستنزاف، ومَن أفرطَ في الاعتذارِ قد يُوقِظُ في نفسِه وفي غيرِه سؤالًا عن موضعِ الخللِ الذي يستدعي كلَّ هذا الانحناء.
وإنهاءُ النقاشِ لا يعني فرارًا من المواجهة، بل قد يكونُ عينَ الشجاعةِ، وحِكمةً تَستشعِرُ أنّ التماديَ في الجدلِ لن يُفضيَ إلّا إلى الخسارة. إنَّ الجدلَ إذا طالَ تحوَّل إلى ساحةِ تناحُرٍ، وتحوَّل الحوارُ من سَعيٍ إلى الفَهمِ إلى مُحاولةِ فَرضِ الإرادةِ وإثباتِ الغلبةِ، حتّى لو كان أحدُ الطَّرفَين على بيِّنةٍ من خطئه. عندها لا يَبقى للحقِّ مكان، ولا يَبقى للوُدِّ أثر، وتتحوَّل القلوبُ من رِفقٍ إلى غِلظة، ومن صفاءٍ إلى شَكٍّ وسوءِ ظَنّ.
وكم من مرّةٍ يكونُ الانتصارُ في تركِ الجِدال، لا في كسبِه؛ ففي الصمتِ نَجاةٌ للقلبِ من أن يَجرَحَ أو يُجرَح، وفي التنازُلِ عن مَعركةٍ صغيرةٍ مَكسبٌ أعظمُ من النصرِ الموهوم. فما قيمةُ أن نَربَحَ حوارًا ونخسَرَ قلبًا؟ وما جدوى أن نُثبِتَ جَدارتَنا بالحُجَّةِ، ثم نكتشفَ أنّنا أضعنا حُبًّا أو صَداقةً أو أُلفةً كانت أثمَنَ من كلِّ بُرهان؟
وصدق رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينما قال: «ما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلَّا زانَه، وما نُزِعَ من شيءٍ إلَّا شانَه». صدقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فاللِّينُ في الخلافِ جَمال، والرِّفقُ في العتابِ حياة، وحينَ تَغيبُ هذه الرُّوحُ تتحوَّلُ كلُّ مَعركةٍ إلى جُرحٍ جديدٍ في نسيجِ العلاقة.
ويَبقى الحُبُّ ما بَقي العِتاب، لأنَّ العِتابَ يعني أنَّ القلبَ لا يزالُ يتشبَّثُ بالوُدِّ، وأنَّ الرُّوحَ لم تَستسلِم لليأس. فالقلبُ السَّليمُ لا يَهوى الغياب، بل يُعاتِبُ ليَبقى، ويَصمُتُ ليَصون، ويتنازَلُ ليَحفَظَ جوهرَ الحُبِّ من أن يَضيعَ في ضجيجِ الانتصاراتِ الصَّغيرة.