بين دفتي كتاب أبو الشهداء (الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه) رأيت العقاد وكأنه الفارس الأبي الذي صعد داخل آفاق نفسه؛ ليقلب في ذاكرة التاريخ وحقبه السحيقة، صارفًا بإشاحة من أطراف أصابع قلبه أي فضول عابر يقتحم خلوته، فيتسلق سدرة الزمان القاصي، ويغزو تاريخًا رحل من الأعمار، لكنه لا زال يعيش في حنايا كل قلب، ينفق قطعًا من روحه في كل خطوة يقطعها داخل مساره المحشو بالشغف، فيمسح بنبل على وجه التاريخ ثم ينزع عنه برقع سفسطته المشحونة بالارتياب؛ فيتندر التاريخ عليه وهو متبرجًا من كل معاناته، ومخضبًا بدماء شهدائه التي تخثرت فوق تلافيف مخه العتيقة،
فيقبض على قلمه بنظرة حكيم عميقة، ويمضي مهتديًا بنور الأثر المنثور على صفحة الخلود، ليفتح طريقًا للتنوير أمام كل عابر وباحث عن الحقيقة.
تشق صدره صفحة مضرجة بالعذاب من تاريخ الطالبين والأمويين، فتختال أمامه الفتنة كالصبا اللعوب، ثم تزأر كعاصفة عتية تعربد فوق أمواج التاريخ، هزيمها يصعق الآذان، ويرج القلوب رجا، بداخل ثنايا التاريخ زوبعة لا تهدأ، تعبث بالعمر الآفل والحاضر والآتي، وتستدعي أوراق ذكرياته المضرجة بدماء الطهر المراق على نصل الخداع، والطمع، والجشع والإسفاف، لتنتزع شهادة الحق من حفيفها المقبور تحت أقدام الجذوع المجتثة من أصول العمر الهارب!
يخبرنا العقاد أن النزاع بين الحسين بن علي ـ رضي الله عنه ـ ويزيد بن معاوية لم يكن صراعًا بين عقلين، أو رجلين، أو حيلتين، بل كان بين الإمامة والملك الدنيوي، بين النفوس العلوية والنفعية، بين نفس تزينت لها الدنيا؛ فملكتها، وتمكنت منها حتى صارت أسيرة لها، تعمل كل ما بوسعها لإشباع رغباتها، والوصول لأطماعها، بأي وسيلة كانت سواء بالانتهازية والوصولية، أو الخنا، أو الخداع، أو الدهاء، أو القتل، فلا تضل عن طريق المنفعة لأنها لا تعرف غيرها من طريق، حريصة على الهنات، قاصرة النظر والبصيرة، وهذه النفس لا يُرفع لها ذكر، ولا يُخلد لها أثر، وإن زين لها فعلها وظنت أنها قد انتصرت، كان فوزها المزعوم زائل لا محالة،
ونفس أخرى أبية، لا تقبل المساومة، تبذل الحياة لما هو أدوم من الحياة، قد أفلح من زكاها بالبر والخلق والكرامة؛ فسيقت لها الدنيا وهي راغمة، فأسقطتها في يديها، وتجاوزت حظها منها، بالترفع والجهاد لنيل نصيبها الأكبر في النعيم الخالد سواء في الآخرة بجنات النعيم ورفقة النبيين، أو الدنيا بالذكر الحسن والثناء الجميل، والذي لا يستطيع أحد تزييفه، أو محقه كما حاولوا فعل ذلك بلعن الحسين بعد موته، فرفع الله ذكره في العالمين، وقد أصبح الحسين بكرامة الشهادة، وكرامة البطولة وكرامة الأسرة النبوية معنى يحضره الرجل في صدره وهو قريب أو بعيد من قبره. وإن هذا المعنى لفي القاهرة، وفي عسقلان، وفي دمشق، وفي الرقة، وفي كربلاء، وفي غير تلك الأماكن سواء، فتلك الأماكن هي التي دفن فيها رأس الحسين، وإن لم تكن هي الأماكن التي دفن فيها رأس الحسين فهي الأماكن التي تحيا بها ذكراه لا مراء.
أخذني الكتاب وجرى بي في موج من الحزن يُدمي حين رأيت عمر بن سعد بن أبي وقاص يشارك في مقتل الحسين، لأجل ولاية الري، لأجل دنيا، ابن الصحابي المبشر بالجنة، مجاب الدعوة، الذي كان يفتخر به الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: "هذا خالي"، عمر يساعد في مقتل الحسين وهو يعلم أنه سيد شباب أهل الجنة، وأمه سيدة نساء العالمين، وأبوه المبشر بالجنة، وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعل ما فعل وهو يعلم!
رافقت زينب أخت الحسين كثيرًا، وبكيت معها؛ فالأخت شطر أخيها الثاني، فإذا مسه الضر خامرها نصفه، وهدها الحزن عليه، ورغم كل ذلك كانت أشجع النساء، هي الصابرة القوية التي وقفت في وجه يزيد وألجمت لسانه وأخرسته، فلم يستطع أن ينطق، ولم يجد جوابًا يرد به عليها، وحافظت على ابن أخيها زين العابدين علي، وابنته فاطمة من بطشه.
استطاع العقاد بفلسفته وولوجه داخل أعماق النفس البشرية أن يفتق جرح أمة ـ لا زال يثعب ـ بفراسة موقن بحال البشر، وبنظرة واسعة بعيدة للأحداث، وليس كمن خرج من عباءة الزمن الراحل وجلس برفقة عقله ينقب عن الأخطاء، ويصدر الأحكام على الجميع وهو خارج نطاق الزمن. فتمكن من إعادة تضميد جرح التاريخ الذي رُتق قبل والوساوس بداخله تنخر في أصوله وثوابته حتى تآكل، وضُمد واللهث وراء الأطماع لا زال يسري في كيانه حتى أصبح كالداء العضال يطفح بصديده الملوث داخل العقول الفارغة إلا من الدنيا والنفعية؛ فكان لزامًا على النفوس العلوية استئصاله من جذوره، واجتثاثه من أوتاده؛ فقدم أبو الشهداء والقلة النادرة الذين ثبتوا معه أرواحهم فداءً لذلك، وأطلق الفارس عنان قلمه في صدر التاريخ، وغاص بقلبه في أعماق زمانه؛ ليخرج لنا الدر المكنون وزلال الفكر الصادق عن حقائق تلك الفترة من عمر الزمن الراحل.
قيل أن هذا الكتاب هو الذي أنقذ العقاد من الانتحار، فقد كان يعيش في فقر مدقع، كاد أن يورده مورد الانكسار والضياع، لولا فضل الله عليه ثم أنفة نفسه، وعزة قلبه، فسيق إليه رجلًا من الشيعة يريد طباعة هذا الكتاب مقابل آلاف الجنيهات، فتجددت عافيته، وردت إليه روحه بسبب هذا الكتاب.