على صدر المشهد الأخير يشهق القلم في وجه السطور، إثر تلاعب ألسنة المرض ومجاهدتها في إخماد جذوة الشغف المضطرمة في حنايا (العقاد)؛ فيكمم أفواهها بعزمه وإصراره!
وهو يتململ على سرير النهاية المسبوك بالتمرد، والمشبع بالإصرار، والمعتق برائحة الحبر ومدامع الورق، يفترش قلبه خد المرض، ويتوسد وجيبه الأنين، ويحل بداخله الضجيج تاركًا خلفه الصمت والراحة يعتلجان على باب الانتظار!
تتجول عاصفة الألم بين ثناياه استعدادًا للهجوم، وهو يكابدها بتحصين قلبه بسياج القوة المصطنعة؛ خشية أن يرزح تحت وطأة هزيمه فيجثم على صدره، ويخنق أنفاسه، ويترنح خفقانه هائمًا على ضعفه في نزق، ورغم كل هذا فقد باءت كل محاولات الأطباء بالفشل في إقناعه أنه مريض بالقلب، وهو مصرًا أنه مريض بالمصران الغليظ، وألح عليه تلاميذه في ذلك كثيرًا لكن دون جدوى!
كما روى الأستاذ أنيس منصور في كتابه الممتع "في صالون العقاد"،
فقال بشموخ غريب لأحدهم مستنكرًا هذه الرغبة:
"هل تظنني أريد الحياة؟
إن الحياة التي لا تريد العقاد فإن العقاد لا يريدها!"، وبقى على عناده وإصراره يرفض الانتقال إلى المشفى.
ورغمًا عن الحياة والألم استدعى القلم؛ ربما أراد أن يلثم جبينه بقبلة وداع أخيرة يهديها للحياة في وصية أو كلمة، ربما أصر أن يُسِّر إليه حديثًا خاصًا قبل أن يلحق به الصمت، أو يُصفد لسانه الموت، ربما أراد أن يشبع من رفقته، ويملأ روحه منه قبل إسدال الستار؛ فوخزه القلم وخزًا عنيفًا نفذ إلى نياط قلبه، وعلق به كالشوكة المغروسة بالصوف، وهو ينسحب متراجعًا أمامه كالعبد العاشق، الذي يفر من فتنة الاحتراق بسيده وهو مرتجفًا بين يديه بعدما فقد ثباته واختل اتزانه!
فاكتأب لذلك وقال لمن حوله:
"الآن فقط عرفت أني قد مت، فهذا القلم لم يهتز في يدي قط، وقد عشت حياتي أعمل لهدف واحد هو أن يبقى ثابتًا لا يهتز، فإذا كان قد اهتز الآن.. إذًا فلقد مات العقاد!"
وبعد أيام قليلة نهض من فراشه وجاء بالمصحف من مكتبه ووضعه على وسادته.. ثم تراخت قواه فجأة، ومال على جانبه الأيمن، وأسرع إليه أقرباؤه ثم جاء الطبيب، لكن نهاية العملاق كانت قد حانت وطوى تاريخ صفحة من عمره عامرة بالعلم والفلسفة والحياة.
القلم
ألمٌ يجري على البوح، لسانٌ أبكم رغم ضجيجه الثائر وإنصاته الرهيب. نجواه صمت، وحديثه إسرار. عزيز الوصل، شهي الكبرياء، إذا أحسنت صحبته؛ أطعمك من زلال البديع عجائب وأسرار، وإذا نقضت عراه؛ أذاقك مرارة كسره. نداوي القلب بالقلم، فماذا عن حال القلب إذا كُسر قلمه؟!
وماذا عن الغرباء، الذين فُطِموا عن البوح منذ الذر، وشبوا على الخرس؛ فوجودوا ملازهم وأمانهم في الثرثرة للقلم؟!
#زينات_مطاوع