هو صيحة الخلاص من أسر الغضب المكظوم ومعاركه المشتعلة داخل نفسك الصامتة، والعوض المذهل حين تعفَّفَ قلبك عن الالتفات لهمزات الظنون، ورغب لسانك عن الانسياق وراء وسوسة الوهم وعبث النفس الأمَّارة، فوُهبت العفو ترياقًا لكل أدوائك لعلك ترضى.
وبقدر ما أنفقت روحك من عفو، وبذل قلبك من لُطف، سيُجبر قلبك وتنعشه الضحكات في أشد اللحظات الليلاء يُتمًا وحيرة، وستشرق رغمًا عن الأحزان بقدر ما ادّخرت في طيات الأيام من كتمانٍ وألم وحسرة؛ حتى لا تؤذي من آذاك، ولا تشوه نفسك بغوائل الكيد وأوزار الغيظ وعذابات التشفِّي والانتقام.
يقول الله عز وجل:
(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) آل عمران.
وكأني أراهم بعين قلبي ثلة من الآدمية قبضوا على طُهرهم، وانتبذوا بأرواحهم مكانًا قصيًا في محراب الدنيا، فارتقوا بأنفسهم إلى أسمى منازل النقاء والرفعة، حملوا ذواتهم على أجنحة الإنسانية، وعانقوا بفطرتهم أبواب الرحمة التي ندرت في غربة الزمان وتيه الدنيا.
هم المشار إليهم بمَسٍّ من الحِس، وكأن بلاءهم في دروب الدنيا هو الإحساس الطاغي والإفراط في الوعي وشفافية البصيرة. قد تمزَّع نياط قلوبهم -الشبيهة بأفئدة الطير في رقَّتها- كلمة نابية هوَت نزقًا من قلبٍ أخرق، فتقُض دموع الليل الساجي سكون الأيام القاطنة في صمتهم.. وهنا يبدأ الصراع بين انتصارٍ لهوى النفس الثائرة لحقِّها ودفع الأذى عنها، وجهاد قلب سُقياه الصبر المتوج بالرضا واليقين، أو النأْي بالروح والقلب هروبًا من صفعة المِحن وأذى البشر، ولأن أنفسهم أبيَّة لا ترضى إلا بالرفعة، فيؤثرون جهاد قلوبهم على هوى أنفسهم، ويتخذون الكظْم سلاحًا والعفو سبيلًا، والإحسان تاجًا يضيئون به قلوبهم ودروبهم، فيبتسمون في رضًا ويلملمون حزنهم في سلام ويمضون إلى الظل مردِّدين في يقين دعاء الكليم: (ربِ إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير) القصص.
فقير إلى عونك ورحمتك وكل نِعمك يا رب وأنت الغني عني، ويزيدون على العفو بالإحسان إلى المسيء وإكرامه والتجاوز عنه لله، وإن أخذته العِزة بالكِبر وهوى النفس، فلسان حالهم ينطق بكلمة واحدة: "هي لله وكفى".