عدّت ساعات قليلة، وأنا قاعد في المكتب براجع محاضر الاستدلالات، لحد ما سمعت صوت خبطة على الباب.
دخل العسكري وقال:
"المتهمين والشهود وصلوا يا فندم، والنيابة بعتت الأوراق الرسمية معاهم."
قمت وخدت الظرف، وقولت:
"خليهم يقعدوا في الاستراحة، وهاتلي الظابط اللي كان مرافق ليهم."
خرج العسكري بسرعة، وبعد دقايق دخل ظابط شاب
قمت سلمت عليه وقولتله:
"أهلاً بيك.. شكلك تعبان جدا من السفر تقدر بس تقولي عدد اللي معاك وياترى اكتر من متهم "
رد وهو بعيد وقالي ـ أنا مش لوحدي، معايا اتنين عساكر كمان.
والمتهمة "هند"، والشهود بقى: المدرسة، وبنت المتهمة، وجوزها معاها بره. وكل حاجة متسجلة عندك في الأوراق.
هزيت راسي وفتحت الملف، وبدأت أقلب في الأوراق الجديدة.
رنيت على العسكري وطلبت يدخللي الشاهدة الأولى.
دخلت ست في منتصف التلاتينات، لابسة دريس وطرحة.
شاورتلها تقعد، وسألتها:
ـ اسمك وسنك ووظيفتك؟
قالت بصوت واطي:
ـ هبة أحمد البحيري، عندي ٣٣ سنة، وبشتغل مدرسة رسم في مدرسة علي بن أبي طالب.
قولتلها وأنا بطلع سيجارة:
ـ إيه علاقتك بالمتهمة؟ واحكيلي كل حاجة تعرفيها.
قالتلي بتوتر:
ـ امبارح كان عندي حصة رسم، وطلبت من الأطفال يرسموا رسم حر، أي حاجة يحبوها. لحد ما بنت رسمت رسمة غريبة جدًا، أنا كنت سلّمتها للنيابة في القاهرة.
فتحت الملف عندي، ولقيت فعلاً آخر ورقة فيها الرسمة:
طفل نايم من غير راس، وراسه جنب جسمه.
بصيتلها وقلت:
ـ الرسمة فعلاً هنا... وبعدين؟ لما شفتي الرسمة عملتي إيه؟
قالتلي:
ـ أنا اتصدمت، ورُحت للبنت اللي كانت بترتعش، وسألتها عن سبب الرسمة دي وشافتها فين.
قولتلها بتركيز:
ـ وبعدين؟ قالتلك إيه؟
قالتلي وعينيها دمعت:
ـ في الأول سكتت، وكانت بتعيط ومش راضية تتكلم. بس خَدتُها للأخصائية النفسية، وقعدت معاها علشان أعرف سبب الرسمة دي.
قولتلها:
ـ وعرفتي؟
قالتلي وهي بتمسح دموعها:
ـ للأسف، البنت شافت أمها وهي بتقتل طفل، بس مش عارفة ليه عملت كده، ولا مين الطفل ده.
قولتلها وأنا مخنوق:
ـ وبعدين عملتي إيه؟
قالتلي:
ـ أنا بعت لولية أمرها، علشان أشوف يمكن دي تكون تخيلات من البنت... ما هو كلام محدش يصدقه.
بس الأم ماجتش تاني يوم، ولا البنت جت.
قولتلها:
ـ ساعتها بلغتي؟
قالتلي وهي بتحاول تمسك دموعها:
ـ أيوه، خدت الرسمة ورُحت بلغت، وفي القسم جابوا البنت والأم والأب. وساعتها كل حاجة بانِت.
بس للأسف، البنت جالها صدمة، وكل ما حد يفتح الموضوع معاها، تصرخ.
قولتلها وأنا قايم، وقعدت قدامها:
ـ حابب أشكرك على شجاعتك. وياريت تفضلي معانا، لأنك هتكوني مسؤولة عن البنت، وتوجهي لها الأسئلة، علشان يتكتب الكلام في محضر رسمي.
أنا مش هسألها علشان متخافش.
هزت راسها بالموافقة، وقالتلي:
ـ طبعًا، كفاية اللي مرت بيه. أنا هفضل معاها ومش هسيبها.
رنيت الجرس للعسكري وقولتله:
ـ دخللي الطفلة.
دخلت بنت، شعرها طويل، وعيونها ملونة... زي عبد الرحمن بالظبط. كانت بترتعش جامد.
المدرسة مسكتها من إيدها، وقعدت على ركبتها، ومسحت دموعها، وقالتلها:
ـ نورا، إنتِ عارفة أنا بحبك قد إيه؟ وعمري ما هأذيكي.
البنت هزت راسها وهي بترتعش، وحضنتها.
قالتلها وهي في حضنها:
ـ قوليلي تاني كده بالراحة... ماما لما رُحتوا بلد تانية، قالتلك إيه؟
قالت نورا بصوت واطي ومهزوز:
ـ قالتلي نادي على الولد الصغير اللي لابس شورت أسود، علشان هتديله حاجة حلوة.
قالتلها وهي بتبص في عينها:
ـ وبعدين يا نورا؟ حصل إيه؟
قالت وهي بتعيط، وبترجع لحضنها:
ـ خدته لبيت مهجور، وقالتلي استني تحت، أنا هديله حاجة حلوة علشان هو شاطر، وهنزل تاني.
بس...
(انهارت في البكاء، والكلام ماكانش واضح من كتر العياط.)
قالتلها وهي بتحاول تهديها:
ـ حصل إيه يا نورا؟ متخافيش يا حبيبتي، أنا هفضل جنبك.
قالتلها وهي بترتعش وبتصرخ:
ـ أنا طلعت ورا ماما علشان أشوف هتديله إيه... لقيتها طلعت سكينة و... و...قطعت
... أنا هربت... أنا خايفة يا ميس هبة!
قالت لها وهي بتمسح دموعها:
ـ خلاص يا نورا، متخافيش... زي ما اتفقنا، أنا مش هسيبك.
البنت أتعلقت في رقبتها، ومش راضية تسيبها، والمدرسة بصّتلي، فشاورتلها إنها ممكن تخرج دلوقتي.
مكنتش متخيل إن الموضوع هيوصل للنقطة دي.
طلبت من العسكري يدخل "مصطفى"، وفعلاً دخل وكان متوتر جدًا.
قمت وقفت قدّامه وقلتله:
ـ يا ترى يا مصطفى كنت عارف اللي مراتك عملته؟ ولا كل ده حصل من وراك؟
قاللي وهو بيعيط:
ـ والله يا بيه ما كنتش أعرف، وآخر حاجة كنت أتوقعها إنها تعمل كده.
قلتله وأنا بلف حواليه:
ـ.احكيلي كل حاجة تعرفها. وسناء دي تقربلك إيه بالظبط؟ واضح إنها مش مراتك.
قاللي وهو بيمسح عرقه:
ـ لا يا بيه... سناء مراتي، بس إحنا متجوزين عرفي.
قلتله باستغراب:
ـ والسبب؟
قاللي وهو بيفرك في إيده:
ـ سناء بنت عمي، ولما عمي مات، أبويا صمّم إني أتجوزها علشان الأرض ما تطلعش برا العيلة.
قلتله وأنا بعدّ على الكرسي:
ـ ومتجوزتهاش رسمي ليه؟
قال وهو موطّي:
ـ كنت وقتها متجوز "هند" يا بيه، وخفت تعرف، بيتي يتخرب... وأنا بحبها، فاتفقت أنا وسناء إن الجوازة تكون معروفة في البلد بس، عرفي، ومحدش من برا يعرف.
قلتله وأنا متعصب:
ـ وذنب الطفل إيه إنه يتولد من غير أي أوراق ولا سجلات؟ كنت هتدخله المدرسة إزاي؟
قال بتوتر:
ـ كنت عايز أقولها، والله يا بيه، بس كل مرة كنت بخاف... لأنها بتغير جدًا.
قلتله:
ـ وهي عرفت إزاي بقى؟ ده إنت شاطر ومغطي كويس، وعديت ٦ سنين من غير ما تعرف
قاللي وهو بيحط إيده على راسه:
ـ من أسبوعين يا بيه، حد من الجيران اتصل على الأرضي وأنا ماكنتش موجود...
هي ردّت، وقالها إنه عايزني، ولما صممت تعرف السبب، قالها إن ابني سخن وتعبان أوي ولازم أوديه لدكتور في البندر.
قلتله:
ـ وبعدين؟ حصل إيه؟
قاللي وهو بيعيط:
ـ بهدلت الدنيا يا بيه، وكانت خناقة كبيرة... بس أنا أنكرت، وقلت لها أكيد حد بيعمل فيا مقلب، وقلت لها لو مش مصدقاني اسألي في السجل المدني، هتلاقيني مش متجوز.
قلتله:
ـ وصدقتك؟
قال بضيق:
ـ تاني يوم قالتلي إنها فعلًا سألت... ومصدقاني. وكانت هادية جدًا، وأنا كنت فاكر إن الموضوع خلص ومش هنتكلم فيه تاني.
قلتله وأنا مخنوق:
ـ للأسف يا مصطفى... ضيّعت ابنك، وظلمت سناء، وكل ده بسبب كذبك وأنانيتك.
تقدر تطلع دلوقتي... وخلي العسكري يدخل "هند".
دخلت هند، كانت لابسة عباية سودا وطرحة سودا، ووشها أصفر.
سألتها على طول أول ما دخلت:
– اسمك وسنك ووظيفتك؟
ردت وصوتها مهزوز جدًا:
– هند محمد علي، ٣٥ سنة، وكنت بشتغل ممرضة… بس قعدت من فترة.
قولتلها وأنا ببص في الملفات:
– بصي يا هند، عايزك تحكيلي كل حاجة بالتفصيل. الإنكار مبقاش له لازمة خلاص، كل حاجة اتعرفت.