كانت هذه المساحة الصغيرة, تدور فيها نقاشات حادة وهادئة, كانت الكلمة التي تخرج من الأفواه, لها المقام الأول في النفوس, إن أصابت عمق الحقيقة أو كبدها, فلها عرش, فيه تُحترم, ومن أجله تُبجًل, ولكن سرعان ما يحاول أخر أن يُنزلها من عرشها, بحجة أشد, لكنها تهتز في النفوس أيضا, الأراء المختلفة تقرأ فيها كل نفس تفسر منه طبيعة من يقول, وتتتابع مجردة من زيها ترى فيها من القبح والجمال, الذي لا شك فيه, إنه لا يوجد جسد كامل الجمال, ولا عقل كامل القوة, والحجة تتذبذ بين الجميل والقبيح, منهم من يغلب جماله قبحه, ومنهم من يغلب قبحه جماله, فلا ترى فيه سوى القبح, ويخفت الجمال حتى لا يكاد يرى, كنت أنظر في مرآة قلوبهم, فلا أجرؤ على إخبارهم بما ترى عيني, فكل منهم لا يرى من نفسه سوى الجمال الطاغي, مهما كان صغيرا, ولو كان نقطة صغير فهو يراها بعدسة مكبرة ويصنع لها من الزينة, هالة كبيرة, يقف أمامها مفاخرا نفسه, أن لديه كل هذا الجمال, فيطمس في عقله كل هذه الكتلة الضخمة من القبح, ولا يراها أبدا, تنظر في ملامحهم كأنهم يقولون لك: كنا مثلي جميل نقي, ترى في نظراتهم شفقة عليك, أن قبحك يغلب جمالك, أن حظك ضئيل بالنسبة لهم, يدعونك لتقتضي بهم, فيما يفعلون وما يقولون, ثقة بما عند أنفسهم, ولو تطلعوا لما في قلوب الأخرين, لرأوا بشاعة ما يدور في خلجاتهم, وما قبحهم الذي يقع في نفوس الأخرين أن سرائرهم بشعة, لا تطاق وأن من يظننهم قباح النفوس, ويطالبونهم فيما بينهم وبين نفوس أن يكون أمثالهم إنما هو ضرب من الهراء والسماجة, يضحكون بها على أنفسهم ويخدعونها ويتلهون عن الحقيقة التي هي تمثل الشناعة ....في هذه الحجرة الصغيرة تماثيل تعبد وأحرار ومنطق وجنون وأضراب من الفنون والجنون, ضحك حتى البكاء وبكاء غير مرئي, تفجع له النفس في صمت مطبق.....دقائق أو ساعات تجتمع الأجساد لتلقي بعبء روحها, ثم تعود أدراجها من الحياة, لتعجب من ذلك الإنسان حين يعلم وحين يجهل, يقول ويكتم, يصرح ويخفي كل هذا وله قدرة عجيبة على إخفاء ما يبطن, وقول غير ما يؤمن به, وإذا آمن فلإيمانه ألاف المخارج والمداخل إنه ليؤمن بشيء يؤمن به الأخرين, ولكن يؤمن لأسباب غير أسبابهم, وربما تناقضها, ويكفر حيث يؤمن, ويؤمن حيث يجب أن يكفر, تعلو الأصوات في حده لتطغى ثم هي تخفت لتموت وسط الضجيج, وقد تكون هي الأكثر قبولا ومنطق, ولكن للجلبة دورها في إماتت الحق, فكانت الوجوه تتلون حتى لتكاد تتوه, ويدخلك الريب, هل يدافع عن الحق أم إنه يتستر للشر عظيم في نفسه دوائر وحلقات متداخله فلا قدر على تمييز, ما يريد إيصاله ما يعتنق وما يرفض ....حجرة صغيرة وعالم كبير, وعقول محدود, ثم هي تسيح في عوامل من الفكر والنقاشات, ميول لا تتشابك ولا تتقارب وأخرى تتعانق وتتماسك, ثم هي هي تعانق ما خالفت بالأمس وتنافر ما عانقت تعادي وتحابي, وهي هي في عدائها ومحبتها وتقلبات للنفس والأحوال وعلامات كل هذا وهناك أشياء ثابته, لا تقبل التغيير ولا تتحول عنها كأنها الأصول, تختفي وتظهر في فلتات اللسان, في بعض المواقف, في الملامح أحيانا, بريق يومض ثم يزول يكشف لك ثم سرعان ما يختقي, لكن أنت كما أنت لا تتحول عن قراءة الملامح واستنباط أشياء كامنة هناك, بعيدة عن الكلمات, قد تكون إشارات أو علامات هي أمضى في معرفة النفوس من آلاف الكلمات, التي تحتمل الصدق والكذب.