إن العقل الذي يأخذ بالقشور, ولا ينفذ إلى باطن الأشياء, ومعرفة ما ترمي إليه هو عقل جامد لا يحسن الحكم على الأشياء, وغالبا ما تكون أحكامه جائرة, تغلفها الركاكة وسوء الفهم, وكثير ما تخدعنا مظاهر الأشياء, فإذا ما رأينا لحية في وجه رجل, فنطلق عليه أحكام تتعلق بالدين والإلتزام والقيم, وما إن نرى شاب وقد أطال شعره, ولبس الموضة, حكمنا عليه بالتخنفس والميوعة, فهي أحكام لا تنفذ إلى شخصية المرء, إنما هي تتعلق بالمظهر والزي, فهذه العقول المحدود بحدود فرضها الشكل والمظهر, وهي لا تقبل النقاش لأنها أفكار جامدة غير قابلة للحوار والمناقشة, فهذه آفة كبيرة, قد يبتلي بها الفرد, كما قد يبتلي بها الجماعة, فهي في الفرد إنما هي دليل فهم رديء أو عدمه فهو يأخذ القواعد على علتها دون أن يكون لعقله حق الفهم والمراجعة والإدراك, وهي في الجماعة دليل تأخر وركود في كل مجال من مجالات الحياة, وفي كل ناحية من نواحية المختلفة إنما هو قوالب تصب ولا مزيد, السابق كالاحق, والمتقدم كالمتأخر, والطبقات والإختلافات هي أيضا قوالب يصاغ له في مراحله المختلفة دون زيادة أو نقصان, فكل مخالف هو عته, وكل جديد هو بدعة وضلال, فتتوارث هي ضلال العقل جيل بعد جيل وأمة بعد أمة, حتى يعبد دون إدراك, ويصير شيء مقدس تدور حوله الأرجل والأقدام, وترتفع به الأصوات, وتلهج به القلوب كأنه كعبة, يقصد الجميع يتوجهون لها بوجوههم وعقولهم, فهي عقول ألفت الإستعباد وأستكانت إليه ورضيت به, وكفتهم مؤنة التفكير والبحث, التي يتطلبها العقل الحر, الذي لا يرضى إلا بما يطمأن إليه ويرتاح له من أفكار وأراء, إنه يجد للوصول إلى القناعة التي تريح عقله وضميره, فيكون على بينة مما يحيط به, ومعرفة بأحكام ما يرى أن هي عادلة أم جائرة, يعقل ويفند ويقارن ويجعل عقله بعد الإطلاع على المناقشات, هو الحكم إلي يحكم في قضية عرفها أسبابها ومضمنينها مخارجها ومداحلها ودرستها دراسة متأنية فيحكم حكم القاضي العادل, لا هي أحكامه يتلقها كابر عن كابر, ولا يعلم ماهية ما يحكم عليه.