رحيل
أتعرف ما يدور في خاطري, تراه في عيني, تلمحه على قسمات وجهي, إنك لا تدرك معنى, أن ترى الموت يسير أمامك, يطوف حولك, دائما ما يذكرك بالفناء, يبكي الساعات الطوال في صمت, ترى وهو يحصد منك أجزاء ثمينة تتناقص, حتى تصبح شبحا يسير بين الناس, الأشياء تتساوى, لا أهمية لشيء إن رحلت, أو بقيت, لا شعور أمام شيء, صفحة ملئتها الخطوط والتعريجات, دوائر تلتف حولنا, تنقلنا إلى ساحات النسيان, كنا صغار نرى العالم كبير وعظيم, هيئته للمرة الأولى تعطينا أنطباعا فطريا بالكمال, بالنظام والتناسق, تتولد فينا الألون, تمنحنا السعادة, تكبر في أعماقنا, وتزدهر وتأخذ أشكالا رائعة مميزة, وعندما تنضج عقولنا, ويترسخ الحب بين ضلوعنا, ونصل إلى ذروة العشق لها, ونشعر بأننا نملك الكثير, ونحن نتربع على عرش القوة, حينها تعطينا أولى دروسها, تنتزع من حافة الصورة, بعض الخطوط, تلقي بالسواد على جوانبها, يبدأ الظلام في الظهور, يتسع شيئاً فشيئاً, تظل الصور تنحسر, مع مرور الأيام, تقل الخطوط بإتساع السواد, ونقص في الأطراف, ثم في الوسط, وعلى مسام الجلد, في أماكن متباينة مختلفة, ثم تتعمق ليصل العطب بالداخل, يفسد الجواهر, القلب, الكبد الطحال, تنتقل العدوى في جميع الأجزاء, يفسد كل شيء, مرارة الأحزان, تطفو على كل طعم, وتترك أثرا لاذعاً, تتغير الرؤية, تبصر العيون ما تغافلت عنه, تدقق النظر فيما أهملت, تجد أن ما كنت تظن أنه الأصل, إنما هو الهامش السطحي, تعيد ترتيب الأولويات من جديد, ولكن بعد فوات الأوان, لا بد أن الزمن يتغير, والأشياء تتغير, الدنيا التي ألفناها صغارنا, ليست هي ما نراها الأن, تبدلت في غفلة منا, لم يكن لنا دور في التغيير, كل ما كان منا, أننا تغيرنا بغير إرادتنا, أحزنتنا كثيراً, ولكننا لم نتخذ موقف ضدها, بل هي ما أبتلتنا وأصابتنا من الشدة, نعم هي من كسرت فينا أشياء, لم تعزينا, عما بدر منها, لم تربت على أكتافنا برفق, صفعتنا وكنا لا نمانع, فنحن لا نملك من الأمر شيء لنعترض, نزول كما يزول كل شيء, تضيق بنا, وتظل تضيق حتى تصير كقبر لا يتسع, إلا بقدر أمتداد الجسم الملقى بداخله, ثم يتسع القبر, يحوي قليل من التراب الأدمي, الذي خلفته السنوات الطوال, تتزاحم به قلوب, من كل شكل ولون, عقول مختلفات, أراء وأشتات وطبقات, عالم كامل, داخل فجوة صغيرة, لو كانوا أحياء؛ لصارت جيوش متناحرة, إنهم لم يدركوا ما صاروا إليه, لو كان حكّموا منطقهم, ربما عاشوا أحياء بأخلاق الأموات, وأتسعت قلوبهم, كما أتسعت قبورهم الصغيرة, لتحوي الألآف منهم, دون ضجيج, ولا مشاكسة, ولكانت دمائهم زكية, ماتت موتا يليق بالإنسان وبعقله, ولما تناثرت دمائه فوضى, فوق تراب الأرض, مبعثرة الكرامة, تحمل العار تاج فوق رأسه, خيبة أمل ألا يستطع يوماً, أن يكون هو, بلا ضغينة, تعكر صفو الحياة من حوله, وتزهر من منابع قلبه الأشياء, دون ضعف, تفرضها الرحمة بنفسه, هل هو قادم لنرى إنساناً جديداً وأملاً جديداً.
أن تكون منبوذاً, ذلك شيء عسير, كأنك بلا هوية, صنعتك الأقدار من حديد, تنظر إليك العيون بإحتقار, تزدريك, تتعقبك باللعنات, إنك لا تدري لماذا؟ كل ما هو واقع مرير, إنك مهما حاولت فإنك غير مرغوب فيك, الكل في انتظار رحيلك, إذا حضرت, فإذا ما أنصرفت أرتاحت النفوس, تنفست الصعداء, ضاقت بنا الشوارع والمدارس, ففي كل طريق نسلكه سهام النفور, تصيب قلوبنا, عندما كنت أحاول أن أصادق, كانت الأمهات تدفع بناتهن, إلى البعد عني, كنت حائرة, لا أستعيب, لم أعادي أحد, كل ما أرغب فيه, أن ألهو, ألعب مع الصغار, من سني, كنت هادئة لا أغضب من أحد, ولا أشاكس أحداً, أدرك أبي حزني الشديد, وجهلي بما يدور حولي, كان يجالسني وقتاً كبيراً, يلاعبني وأخي الصغير, يعوضنا عن نفور الأخرين لنا, دون أن ندري, يأتي لنا بالكتب, ويحكي لنا القصص, ويشاركنا جميعاً ألعاباً كثيرة, حتى أمي, عندما كانت تفرغ من عمل البيت, تنضمن إلينا, كان عالمنا الصغير, أنا وأخي وأمي وأبي, لم يخرج أبي بعد أن يعود من العمل, يبدو أن أبي يعاني هو أيضا, مما أعاني منه, لم تكن أمي تجالس الجارات, تأتي بطلبات البيت, ثم لا تخرج, تلازمنا كانت في بداية الأمر, تحاول أن تقيم علاقات بينها وبين جاراتها, لكنها أحست أنها عبأ عليهم, وأنهم يتخوفون من شيء ما, فلم تعد تقحم نفسها على أحد, أكتفت بنا, وأكتفينا بها, وبأبي بعد محاولات مضنية في أن نختلط ونشارك, ولكننا أدركنا جميعاً, بصعوبة الأمر على الأخرين, كنت أخفي حقيقتي عن الأخرين, ثم أفاجيء بمعرفتهم, فتتحول معاملتهم إلى نفور, كان أبي رجلا صالحا, لا يتعدى على أحد يحترم الجميع, سخي إلى حد البذخ, لم يحرمنا من شيء, وقد علمنا الكثير, علمنا أن نطرد الكره من قلوبنا, أن نحب أن نقابل الحسنة بالحسنة, والسيئة بالحسنة, أن يقودنا الحب, أن نحكّمه في حياتنا, لتمتلأ به, ألا يعنينا من الأخرين, سوى أن نفيض عليهم من حبنا, كان يقول ذلك, رغم ما نلقاه من جفاء منهم, كان يمسح بكلماته, ما نلقاه من سيئات الأخرين, وكانت أمي امرأة رقيقة القلب كأبي, امتلأت قلوبهم بالحب, ففاض على بنيهم منه الكثير, وضعا يدينا أنا وأخي على أصول الأشياء وقواعدها, ثم تركونا نختار كيف نشاء, نحب كما نشاء, ونعمل ما نشاء, أنفقا حياتهما في محاولة إسعادنا, ودفع شعور الوحدة, والنفور من الأخرين, أجتهدا في سنوات الدراسة معنا, فكنت وأخي دائما من المتفوقين, كانت وحدتنا سببا في أن جعلتنا نقرأ, ونتثقف ونتزود من الأدب والعلم الكثير, حتى وسعت مداركنا وعقولنا, ألتحقت بكلية التمريض, وتخرجت منها بشهادات عدة, التفوق والحب والإحترام, كنت قد تعودت على هذه المعاملات المحدودة مع الأخرين, فكنت نموذجا مجد مجتهدا, ألتحقت بالعمل في إحدى المستشفيات الخاصة, كان عملي في مستشفى بعيدة عن منزلنا, أرتحت لذلك, حتى أكون بعيدة أيضاً عن عيون من يعرفوني. كان عملاً مرهقاً, فلم أعتاد على السهر, الذي أرهقني في البداية, حتى تعودت عليه, ولكنني أحببته كثيراً, وفي الليالي التي أجالس فيها المرضى, كان يعطني فرصة للقراءة, التي أدمنتها منذ الصبا الباكر, وأصبحت بالنسبة لي شيء ضروري, لا أستطيع الاستغناء عنه, كنت لا أملّ من القراءة, مهما طالت الساعات, أمر على العنبر في الساعات الأولى من الليل, ثم أجلس ساعات أستمتع بهوايتي, ثم أمر مرة أخري لأعطي الدواء؛ لمن يحتاج إليه في الميعاد المحدد, ثم أنطلق مرة أخرى في عالم الكتب والقراء, حتى الصباح, حين أسلم نوبتي وأغادر, أحببت هذا العالم, عالم الليل والوحدة, والسكون والصمت, والقراءة ورائحة الكتب, وكانت أمي وأبي سعيدين بسعادتي وفرحتي بها, وكل ما يحزنهم هو انخراطي الشديد وإندماجي في هذا العالم, وطرد فكرة الزواج من رأسي, والحق إنها كانت بعيدة عني, بعد الأرض عن جو السماء, فأنا سعيدة بعالمي هذا, ولا ينقصني شيء على الإطلاق, وإن بقيت على هذا الوضع سنوات عمري كاملة, فلن أحزن لذلك, بل أتمنى لو تظل هكذا, دون أن ينغص علي أحد حياتي, أو يعكر صفو مزاجي, كنت كثيرا ما أعتذر, لمن أراد الإرتباط بي, لأني كنت أراهم يبحثون عن إشباع أجسادهم فقط من أنوثتي, وإن كانوا يعجبون أيضا بعقلي وفكري, وأرى فيهم خواء عجيب وسطحية, فلا يعنيهم من الحياة سوى الأمور المتعلقة بالكلأ والماء والجنس, لا يقرأون ولا يشحذون عقولهم, ويعملون أفكارهم, لا قصيدة تنفعل من أجلها مشاعرهم, ولا حوار حول الأدب, أو في أمور السياسة والاجتماع, ولا رأي لهم, سوى في الكرة أو الأفلام الساقطة, والسبب الأخر لبعدي عنهم, إنهم لا يعرفون حقيقة ما أدين به, مما سيجعلهم ينفرون, ولا يقبلون, أو يجعلهم يتجرأون؛ ليحاولوا أن يجعلوا مني فريسة, لأهوائهم قد مررت بكثير من أمثال هؤلاء, فكلهم متشابهون, لا يملأ رؤسهم الفارغة غير الفراغ, وما يجعلهم عبيد حواسهم, والسعي لإرضائها وإشباعها, أدرك أبي أن هذه حياتي, وأني سعيدة بها, على هذا النحو, إنهما لم يجباراني على فعل شيء, وأن الحياة حياتي, التي أريدها, وأرغبها, وطالما أني سعيدة بها, فما يريدان أكثر من ذلك, وأمي. مرت الأيام وأنا أتعلق بطقوس حياتي الجديد, بين العمل الذي أتفانى في إتقانه, وبين القراءة, وأوقاتي التي أقضيها بين أبي وأمي وأخي, قبل ذهابي للعمل كل يوم, نجح أبي في أن يخلق لنا عالما موازيا, لا نشعر فيه بالنقص, أو الإزدراء, بنينا أنفسنا بقوة, بالعلم والأدب والحب الذي شملنا وعمّ قلوبنا.