في حديث صحيح أخرجه مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على قوم يلقحون نخلهم ، فقال : لو لم تفعلوا لصلح ، فخرجت شيصا - تمرا رديئا -فمر عليهم صلى الله عليه وسلم ثانية فقال " مالنخلكم " قالوا : قلت كذا وكذا ، فقال " أنتم أعلم بشؤون دنياكم "
وبذا أوضح صلى الله عليه وسلم فارق مابين الذي يجب اتباعه فيه مما هو تشريع ووحي ، والذي لايجب اتباعه فيه مما هو حياتي ودنيوي ، فهذا متروك للناس يتصرفون فيه بمقتضى خبرتهم الحياتية وتجاربهم المتراكمة ، حتى ولو أبدى فيه صلى الله عليه وسلم رأيا ، لكونه يصدر عنه بصفته بشرا ، وليس نبيا يوحى إليه .
-والحقيقة أن الأصوليين كانت لهم عناية بهذه التفرقة وتمييزها وضبطها ، بل وهناك مؤلف كامل للقرافي رحمه الله تعالى بهذا الخصوص ، أسماه " الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام "
وقد جاء هذا الكتاب ليمثل انطلاقة للعديد من الدراسات التي عني فيها أصحابها بتحديد الفواصل بين ماهو تشريعي ، وماهو غير تشريعي ، على نحو مانجد عند الشيخ شلتوت في كتابه " الإسلام عقيدة وشريعة " وشاه ولي الله الدهلوي في كتابه " حجة الله البالغة " والشيخ محمد الطاهر بن عاشور في مقاصده .
والآن : لم يعد شيئ في دنيا الناس خارج نطاق الفتوى !!
يعني لم يعد للناس مساحة حرة يديرونها بأنفسهم باعتبارها من شؤن حياتهم ودنياهم ، وكأنهم جميعا غير واعين ولامكلفين في نظر هؤلاء المفتين ، لنصبح أمام ظاهرة : المفتي العليم بكل شيء…
يفتي في الطب والزراعة والاستثمار والفلك والتكنولوجيا ، بل وفي النزاعات والاضطرابات النفسية و الأسرية والعائلية … الخ
وأشهد أن كثيرا مما استمعت إليه أو شاهدته في برامج الفتوى -في التلفاز وعبر المواقع في البث المباشر وغير المباشر- ليس بمحل للفتوى على الإطلاق .
ولكم تمنيت ولو لمرة واحدة أن أسمع ذا عمامة يقول لمستفتيه( ماتسأل فيه إنما هو شأن حياتي يخرج عن نطاق الفتوى ) لأنه بالفعل شأن حياتي ، يديره العالم والجاهل والبدوي والقروي بمنطق الحياة والفطرة والطبيعة ليس إلا .
أو يقول لاأدري على طريقة أهل الورع من الأسلاف ، حتى قالوا : من قال لاأدري فقد أفتى .
-ولكننا وفي أكثر مايطرح من أسئلة (من شؤون الدنيا )، نجد الإجابات جاهزة ، والأدلة تطوع بطريقة عبقرية ، وتهندس على مقاس السؤال وتوجه المفتي ، وغالبا ماتتم الإلحاقات والأقيسة بشكل غير منطقي وغير عقلي ، أما القياس الأصولي الذي يعتمد العلة الطاهرة المنضبطة المتعدية ،فلا علم لهؤلاء به ..
ثم يكون النطق بالحكم : حرام حرام حرام …
ولاأدري ، أين هؤلاء المفتين من قول الله تعالى " ولاتقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لايفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم " "
-ثم إن هناك بين الحلال والحرام منطقة فسيحة تسمى منطقة الفراغ التشريعي أو ماأطلق عليها الأصوليون " السكوت التشريعي ، أو " العفو " استنادا إلى قوله صلى الله عليه وسلم " الحلال ماأحله الله في كتابه ، والحرام ماحرمه ، وماسكت عنه فهو عفو "
لابد إذن من وجود هذه المناطق الثلاث في حياتنا : حلال وعفو ، وحرام .
- والحلال فسيح ، لأنه مقابل الحرام ، ولاتحريم إلا بنص قاطع في التحريم ،والمحرمات المنصوص عليها قطعا قليلة ، فبدهي أن يكون الحلال الذي يقابلها فسيح وعريض .
هذا بالإضافة إلى منطقة العفو التي هي حلال كذلك ، وهذا هو الأصل فيها ، ولكنها لم تعد فراغا وامتلأت بالأحكام ، بل وحشيت بالحواشي والتقريرات .
- والأدهى من ذلك : أن أصبح هناك مباراة في التفاخر في هيآت الفتوى ولجانها المنبثقة بعدد الفتاوى الصادرة، والتي قفزت إلى المليون في الهيئة الأم في مصر في عام واحد ، فكيف لو انضم إلى هذا الرقم مايخرج من اللجان المنبثقة عن الهيئة الأم ، ووزارة الأوقاف والأزهر ومايبث عبر التلفاز والفضائيات ومواقع التواصل ؟
حقيقة ، هذا الذي يحدث لايتفق بحال وماكان عليه الصحابة رضوان الله عليهم ، الذين عهد عنهم التأثم والتحرج من الفتوى ، إذ كانوا يحيلونها على بعضهم ، والأعلم منهم ، وعلى هديهم سرى الأئمة المؤسسون للمذاهب الفقهية عبر العصور .
-وقديما لم يعتد الإمام ابن حزم رحمه الله بالقياس الأصولي المنضبط المقعد المقنن ، واعتبره تقولا وافتراء على الله بغير علم ، وتحريما بلا دليل يحرم ، لأن الحلال بين والحرام بين وماسكت عنه الشارع فهو عفو ، كما قال صلى الله عليه وسلم.
ولهذا أصبح الإمام ابن حزم متهما واخترعوا قاعدة لهدمه وفقهه ، فقالوا " والحزم أن لاتتبع ابن حزم "
ولو فتشنا لوجدنا أن واضعي هذه القاعدة إنما وضعوها لأن ابن حزم لم يوافقهم على تحريم ماحرموه بلا دليل قاطع في رأيه ، يعني لأنه رفض أن يكون واحدا ممن يسير في منهجه بسياسة القطيع .
-وإذا كان ابن حزم من المغضوب عليهم ، فمن قبله نقل عن إمام أهل السنة مالك رضي الله عنه قوله " ما أدركت أحدا يقتدى به يقول في شي هذا حلال وهذا حرام ، وما كانوا يجترئون على ذلك ، إنما كانوا يقولون نكره كذا ونرى هذا حسنا "
كما نقل عن أبي يوسف - تلميذ الإمام أبي حنيفة رحمه الله- قوله : أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون في الفتيا أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام إلا ما كان في كتاب الله بينا بلا تفسير "
بل ومما روي عن الإمام أبي حنيفة نفسه ، أنه سئل " هل ماتراه يا إمام هو الحق الذي لا ريب فيه؟ قال بل لعله الباطل الذي لا ريب فيه "
وكان الإمام أحمد رحمه الله كثيرا مايسكت عن الجواب فيما يستفتى به ويستحي أن ينطق بحكم ، مكتفيا بقوله " لاأرى به بأسا "
أيها المتحدثون عن الله ورسوله : اتركوا الناس فيما هو من شؤون حياتهم الدنيا يعيشونه برحابة الشريعة السمحة السهلة ، التي وضعت حدودا فاصلة بين ماهو ديني وماهو دنيوي ، فسياسة التضييق على الناس والتحريج عليهم - لاسيما مع هذا الجيل الصاعد المختلف حتما - إنما تنفر ولاتبشر .
ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه .