عزيزتي سالي
يعتقد البعض أننا –ككُتاب– سعداء مشرقون دومًا كما ابتسامتنا التي في مربع الصور، نخرج من حفل لندوة، ومن تصفيق حاد لتكريم رائع، ومن نجاح لآخر وإصدار لغيره، ثم نستقبل الأموال في جوالات كبيرة نودعها تحت رؤوسنا، وننام بعمق.
لم يستطع أحدهم رؤية دموع نخبئها خلف الضحكات المفتعلة، كي لا نتعس من ليس لهم ذنب في ذلك، ولا عيون الباندا التي نخفيها بعدم التقاط الصور إلى أن تتلاشى أو نمل من التخفي بالسعادة،
لم يرَ أحد منهم بكاءنا وحرقة تشتعل بقلوبنا ولا تحطم أحلامنا ولا توترنا عند الكتابة وانتظار نشر جيد، لم يرَ صاحب نظرية جوالات المال وسائدنا تئن من القلق والسهد الذي يسكننا كل حين، وجيوبنا الفارغة وأرصدتنا التي ترسل لنا رسائل بضرورة سداد المستحق من فواتير، لم يدرِ أننا حمقى لا نتكسب من الكتابة بل تتكسب منا الكتب.
البعض الآخر يتبنى نظرية ما بأننا دومًا ما نكتب أنفسنا، نحكي عن العائلة والعشاق الألف، وكأننا لا هدف لنا سوى الحب والمحبين والفضائيين والغرباء، وكأن العالم يدور من حولنا ولنا، دون أي اعتبارات.
ربما يحدث أحيانًا أن نترك قطرة من أرواحنا داخل نص، أو خيطًا رفيعًا يختفي خلف شجرة في قصة ما، ربما نلون عيون الأبطال بألوان أحببناها، ونترك مزاج البطل معتلًّا كما أمزجتنا المتقلبة، ربما نمنح البطلة حياة هادئة أو ثرية بالأحداث كما يسكن عقولنا من زحام، ربما نحزن فنقتل البطل ونفرح فنزوج بطلتنا ببطلنا، وربما أكثر الأحيان نكتب ما لم نعشه أبدًا في الحقيقة، نقبل السحب ونعانق أمواج البحار، ونرقص تحت المطر على نغمات صوت الحبيب، نكتب أحلامنا التي تراودنا في وقت الصمت وتأملات سقف الغرفة الصديق، آمالنا الوردية المنسية تحت عباءة الزمن القاتمة، قصص حبنا التي كنا نأمل أن نحياها، دفء المحبين وتفهمهم وبهجتهم التي نتطلع إليها، أشخاص رائعون كنا نأمل أن نلتقي بهم، وطريق طويل على جانبيه الزهر والشجر، قصص تعثرنا بها على مدار الحياة، وخيال يمتلئ بالشغب والصراعات وخرافات العالم المندثرة منذ ألف عام، وومضات مرت علينا ونحن نستقل السيارة ذهابًا وإيابًا من وإلى العمل،
في عقولنا دوما قصة تريد أن تنطلق وتروي عن نفسها، في عقولنا حياة أخرى لكنها ليست لنا، ربما نتمنى وجودها أو لا نتمنى ذلك فلا تضعين النظريات الخطيرة عنا، ولا تتوقعين فنحن فوق التوقعات.
عزيزتي، لماذا نكتب؟
نكتب لنفرغ عقولنا من مشتتاتها لنعيد ترتيب الحروف داخلنا، ونرسم خطوطًا جديدة منتظمة، ننظم ما بداخل عقولنا بسكب الكلمات على الورق ونحن في الحقيقة نسكب من دمائنا وأرواحنا ومشاعرنا، فعقل الكاتب كبيت كبير ضخم يحمل معه قشة من كل مكان دخله أو تركه أو سعى إليه، ربما خيطًا صغيرًا يعلقه على الحائط، لوحة يثبتها هنا، كرسيًّا عتيقًا يركنه على أقصى اليمين، قلمًا، ورقة، عقدًا من فراشات وسوارًا من نار، خاتمًا بضياء القمر، شعاع الشمس المتسلل برفق أو شدة، منفضة سجائر، كومة سوداء لا يعرف كنهها، أخرى وردية تحوي الأحلام والمحبة والزهر، طيورًا صغيرة، ولحنًا موسيقيًّا رائقًا وصخبًا آخر لا يعلم العقل من أين أتى، ربما من بائع العصائر أو الفطائر أو ذاك الرجل المجذوب الذي كان يغني في الطريق أغنية عن الحب، وفي الركن هرة صغيرة تعبث بالأشياء فتبعثرها وتكومها، وفراشة تبحث عن الضوء، وكلمات تتشكل وحروفًا تسقط، وريشة ترسم أشكالًا هلامية ونقوشًا ووجوهًا وحياة.
وحينما يمسك الكاتب منا بالقلم تقف جميع الأشياء على أطراف أصابعها مشيرة لنفسها، تنتظر أن يلتقطها فيبدأ في كر خيط ما وهمي تنساب من بعده الكلمات دون توقف، فيأخذ الخيط الصغير ويربط به أطراف طائرة ورقية يلهو بها طفل صغير على حافة النهر، أو يقبض على فراشة جميلة يجعلها ترتدي ثوبًا من نور وذهب وترقص كجنية الأحلام على نغمات حزينة تنبع من كلمات شوبنهاور.
وربما يلملم الجميع في رواية طويلة لا تنتهي، حتى إن كتب كلمة النهاية تظل في عقله نهايات كثيرة وأجزاءً لا تنتهي كفروع شجرة تتفرع لتلمس السحب ولا تقف عن النمو إلا بموته. الكاتب كائن مسكين يستيقظ فجرًا فجأة على عصفور ينقر ذاكرته ليكتب نصًّا، تسكن في عقله دومًا حكايات معذبة عن الكون، عن نفسه والآخرين والفضاء، روايات لا تتركه ولا يتركها، يحمل على كاهله هموم تغيير العالم للأفضل، أشياء مستحيلة التحقيق، يرى الجمال بعين غير ما يراه الآخرون، وينفذ داخل القبح فيتأثر به أكثر مما يفعل البشر، أنات طفل في غابات الأمازون تؤلمه فيبكي، ضحكة سعادة في الهند تمنحه شعورًا سعيدًا، رقة العالم وقسوته تنغرز في عمق روحه، تقتلع هدوءه أو تمنحه الهدوء، تبعثر ثباته أو تمنحه ثباتًا جديدًا، هو دومًا في صراع مع شيء ما، وإن لم يكن صراعًا مرئيًّا فهو صراع مع ذاته، ينفضها لومًا ويربت عليها، يصرعها أرضًا ويرفعها على رأسه للسماء مانحًا لها جائزة الصمود الكبرى، إن لم يسكنك الصراع فأنت لست بكاتب.
إن لم يسكنك الغضب والهدوء والسكون، الفرح والحزن الأمل واليأس، كل المتضادات وعكسها؛ فأنت لست بكاتب.
إن لم تكن عالمًا فلن تكون هذا الكاتب الذي تريده أبدًا.
كن عالمًا... كن حياة... تصبح كاتبًا.