أليست في بعض السجون حرية الإنسان, في أن يقول, يقيد بجسده في مكان ما, تحيط به حيطان أربع, في أحدها باب حديدي, محكم الغلق, عليه حارس يجلس على كرسيه, يتعاطى كئوس الشاي, مقيد هو أيضا لساعات بجسده المصلوب, حائط يفصل بين الروح, التي تنطلق بحريتها إلى الأفق البعيد, وتلك التي لا تعرف للحرية معنى, إلا في إطفاء لهيب جوع الجسد ومتطلباته, فهو معتم مظلم لا روح تضيء له مسالك الطريق, لتبصر عينيه سماء تشرق فيها شمس, ويغزو النور روحه, كما تبصر عينيه أفق جديد غير أفق الظلام السرمدي, ذلك حارس النور بين جدران, فهي تشع وتنفذ, ولا تمنعها سياج متينة صلبه, إنهم يصنعون الأمل من المستحيل في أرض دستها أقدام السائرين فوق الرؤس ....
في ذلك العالم يعيش الجميع بلا قضبان, يسجنون أنفسهم في ألم قديم, في حزن قريب, في كلمة نابية, في شعور, في أحلام, لم تتحقق, في أغنيات, في قصة, في كتاب, إنها سجون متعددة, سجون لا حصر لها, ينسج خيوطها عقل الإنسان ومشاعره, حتى تستحكم وتقضي على الفرحة, التي قد تولد في لحظات ما, إنها سجون عتيقة, مظلمة تحت أرض الواقع المميت, فلو إننا تفقدنا هذه السجون, لأعيتنا كثرتها من الإحصاء والأنواع, سجون تُلهم, وأخرى تلتهم, يعيش المرء بين حوائطها, وقد علا من باقي جسده المحترق دخان كثيف لا يراه أحد سواه, يرى نفسه وهي تحترق وتفنى أمامه, ولعله هو من أشعل فيها أعواد ثقابه, فهو من يضع قطرات النفط فوق جسده, لتشتعل, وكلما هدأت النار ألقى أخرى, ليشتعل جسده من جديد, كأنه أدمن الحزن, وألقى بعصاه, أمله في الخلاص على الأرض, لتكون حية عظيمة, تنهش منه أيامه, ويمضي لياليه في جزع وخوف, ولكما أنهى مدة سجنه, وخرج وبه رمق من حياة, كان من المفترض أن يكون بذرة يغرسها ويتعهدها بالرعاية, حتى تصير شجرة كبيرة, يستظل بها من هجير صيف الحياة ورياح الشتاء القاسية, ويقيم بيتا صغيرا بجوارها, ويدافع عن بقائه على قيد الحياة الجديدة, التي وهبت له, بعد أن أبتعث من جديد, خارج سجنه, الذي قضى فيه سنوات, ألتهمت فيه الجمال والنعيم, فهو على أبواب حياة أخرى, يجب أن يتمسك بها, ويجاهد في الدفاع عنها, فهي فرصة أخرى كل هذا قد يطرأ إلى ذهنه عند لحظات الخروج, لحظات أن يخطو خطوات قدميه, خارج محبسه, فإذا ما أبتعد قليلا, وجد قداماه تبحث عن سجن أخر, تسعى إليه, سجن من نوع جديد غير كل السجون, التي جربها من قبل, يجرب عذابا مختلفا وانتهاكات جديدة وأبالسة جحيم, لم يروهم في السجون التي مر عليها, إنه أعتاد الحبس, وأدمن حوائط المبكى, وصار قلبه لا يدق إلا على عزف, يمزق أنسجته الحية, فيشعر بالحياة والموت, يعيشان فيه ويدور حولهم ملبيا نداء الشقاء الأبدي ..........
إن الحياة سجن عظيم, لا نستطيع الإفلات منه, والخروج عن دائرته, له قضبان فولاذية, لا يقدر بني البشر على المساس به أو حتى ختشها ولو اجتمعوا في صعيد واحد وتكاتفوا عليها, لن تمنحهم غير ما تريد, وما قدرت لهم الأقدار, ولكننا نعيش أيضا في سجون أخرى, غير التي صنعت لنا الطبيعة, سجون نبنيها بأيدينا, ونجعلها أشد صلابة, ويعجز الأخرون عن كسرها أو الإقتراب منها, سجون نزخرفها ونزينها ونضع فيها خلاصة تجاربنا, نرصع حيطانها بالجوهر أحيانا أو نلطخها بدمائنا, نعلق فيها المشانق التي تحيط برقابنا, ونعذب أنفسنا أحيانا بالسوط, نقرع به ظهورنا, في الشتاء نتجمد من برودة ما نلقيه في تلك السجون من أرق وتعب ينغص وحدتنا.
بما يفكر المسجون في سجنه, أي أفكار تطارد عقله المقيد المسجون, وأي خواطر تلاحقه بين الحين والأخر, في زمن يمتد, وتتوقف فيه الأيام, لتصبح سنوات والدقائق لتصبح ساعات, والثواني تدق دقاتها في الراس والقلب, ألم يتسع كل لحظة, ففي السجون تتعاظم الأشياء, فالعمر أعمار, والسنوات قرون, وكل شيء ثقيل يجثو فوق صدري, ويظل يثقل علي ....في ذلك العالم ترى الإنسان, وقد هوى دركات, يتحطم فيه ما بنته الطبيعة ...يقول رجل رأى سجين أمتد به سنوات سجنه لأكثر من سبع وعشرين عام, أن ذلك السجين لم يتجاوز الخامسة والأربعين, وإنه ما أكمل الثامنة عشرة, وأرتكب جريمة قتل, وحكم عليه بالإعدام, ثم المساعي لتخفيف الحكم, حتى صار مدى الحياة, يقول رأيت حطام إنسان بالفعل, عرفت كيف يمشى الموت على قدمين هزيلتين, كيف يتمثل لنا نحن البشر؟ وكيف يبدو ما تقع عينيك عليه, حتى ينتابك ضيق شديد, حين يحل البلاء واقعا على رأس إنسان, فيأخذ في تدميره, وتحطيمه ببطيء شديد, مسني حزن ترك في نفسي ضيقا بكل قضبان, وبأي سجن, ولأي كائن فيه روح, كنت أنظر إليه, وقد أفقدني توازني العقلي في أن هناك من البشر من يعيش بيننا ميت, ونحن عنه غافلون, فالأرض تحمل الكثير مما يغيب عن أذهاننا, وأبصارننا, كأني رأيت نوع أخر من البشر, لم أراه من قبل, ماذا فعلت القضبان بهذا الرجل, لتجعل ذلك الطلل البالي, لم يكن طاعننا في السجن, لتنحني ظهره, ويقوس عوده بهذا الشكل, كانت إجاباته على اسئلتنا إذا سئلناه مقتضبه يأسه, تخرج من كهف متحرك, لم يألف إلا الظلام, ولم ترى عينيه نور شمس من قبل, وإنما يعيش على ذكرى, إنه ولد يوما إنسان, فهو ميت وإن تنفس وإن علا صدره بالهواء الفساد, لسنوات طوال, واستنشق أتربة ودخان, يعكر صدره, كما عكرت القضبان صفو حياته, وأنهكت جسده البالي, وأبلت روحه التعيسة, خرجنا من أبواب السجن, وأنا أبغض كل قفص, يمنع الطيور أن تمارس حريتها, وتقص لها تلك الأجنحة التي خلقها الله لها, لتطير وتقطع مسافات في الهواء, تبحر في فضاء الحرية, لا أن تقص أجنحتها لتمنعها من أن تجوب وتحلق وتحيا.