كانت تريد أن تكون شيئا أخر, لا جسداً تحترق بنار شهوته, كانت تبحث في الجسد عن مكان النبض, عن النار التي تشعل القلب, وتبقى حامية, تزلزل تيار دمائها, عندما قابلها للمرة الأولى, لمح في عينيها حيرة عظيمة, كانت تريد أن توقظ الحب من أعماقها, لتكون إنسان, سئمت أنوثتها, وما تجلب عليها من ذباب, يتكدس على حوفها الأنيقة, والماء العكر يتحلق على ضفيتها, قرأت ألآف الأغنيات, المقطوعة الألحان, الغير مكتملة سمعت الأناشيد مبحوحة الصوت, عينيها الراحلتان في الأفق البعيد. كانت تائة, تتنفس بصعوبة شديدة, أنفاسها تتهدج, تريد أن تصرخ, لكنها تعلم مسبقا, أن أحداً لن يسمع, فتؤثر البقاء صامتة مكبوتة, إنه سمعت صرختها المكتومة, دون صوت في إهتزاز شفتيها الضعيفتين, كانت تبحث في عيون الأخرين عن نفسها, عن الماهية, عن القيّم فيها, كان الحزن يتشعب فيها, ويمتد حتى وصل أطرافها مقلتيها وأهدابها, كانت تبحث عن ذلك الحضن الدافيء, الذي طالما بحثت عنه, ولم تجده, وقد أرقها البحث, وكلت قدميها, وأوشكت أن تفقد الأمل, وتؤمن بأن لا إنسانية في عالمنا, وأننا جميعا وحوش ضارية, وأنها كانت واهمة, حين ظنت أنه يقطن في الأعماق, أشياء لها معنى, ولكنها فقدت المعنى, شعرت أن الأمل بدأ يتسلل إلى نفسها, وأن هناك من يحاول, أن يستخرج ذلك الكنز الرابض هناك, الخفي عن العيون, وأن ما راودها منذ سنوات الصبا حقيقة, لا خيال فيه, وإنما قد يكون واقع حي, يتحرك في عالم البشر, وإنها بالفعل قبل كل شيء اسمى من أن تكون جسد له خوار, يستميل الأخرين لعبادته, قالت له: أنني أحب الربيع, الأشجار حين تعلوها الأوراق, والأرض تنتشر فيها الخضرة على امتداد العين, ثم تنفذ إلى الخاطر, تكسوه بالحب والجمال, هل تحب الربيع؟ هكذا سألته, قال لها: إن لها قلب عاشق, أن تهتز لرؤية الجمال, أن تعيشه, ويمتد حتى يملأها, فهي بالطبع إنسان جميل, سكتت قليلا وأشرقت مقلتيها, وفترت شفتيها بإبتسامة, كست ملامحها فرحة كبيرة, كانت سعيدة, لأنه رأها من الداخل, وأن وجهها كان النافذة, التي أطلع منها إلى عالمها المجهول, كانت تحب أن يراها أحد, من زواية أخرى غير زاوية الجسد, كانت في حاجة, أن يذكرها أحد أنها إنسان, وليست أنثى فقط, ودت لو قبلت يده, لأنه منحها فرصة الشعور بإنسانيتها التي يبدو أنها فقدت الشعور به, منذ زمن بعيد, كانت الكلمات لامست قلبها وروحها, كان شرودها فيما آلت إليه واضح, وما أخذها إليه, إنها أنتقلت من عالمنا الحاضر, إلى عالم أخر, كانت ترغب في الذهاب إليه, لم تدري ماذا تقول؟ فالكلمات توقفت على لسانها حائرة, ليس في قاموس كلماتها, ما يقال, ما تشعر به, في تلك اللحظات, لكنها ودون أن تدري أيضا نقلته دون كلمة, نقلته بإستفاضة, بلغات كثيرة, وبلهجات أوسع, نقلته في لمحات خاطفة, وصله ألاف المعاني, التي تاه في معانيها, ما كل هذه التعبيرات, إنه لم يكن إلا شعور أحست به, فنطقته بلا كلمات, كان ردها موضع استغراب منه, من كثرة ما اكتسح ذهنه من فكر وشعور, أنها كانت كصحراء قاحلة, فإذا بالسماء تهطل, والسيول تفيض, بعد ظمأ دام لسنوات, بل قرون, مئات السنين, حتى تشقق كل شبر فيها, وهي الأن قد أرتوت بلا حساب, حتى فاض, تحولت في غمضة عين, إلى بساتين وحقول وأشجار باسقة, أبتلت عروق, جرى فيها دما دافئا, فقط كانت تريد أن تكون إنسان. لا جسداً له خوار.