إنها صدى في النفس, لمعاني لا ترتدي ثوب الكلمات, إنها حكايات وأقاصيص وأشعار, أشياء تقال وأخرى تعجز اللغة أمامها أن تجد الكلمات, ولعلها أكبر من الكلمات, وأعظم من أي لغة, أو تستطيع أن تقول إنها لغة بذاتها, لغة المشاعر, لغة تصل إلى أعماق النفوس, دون أحرف وكلمات, إنها تنساب كالماء الجاري من منحدر عالي؛ فتسقط هناك, حيث ينبغي لها أن تكون, فهي تقلق تلك الترب, لتكشف عما خفي فيها, فالموسيقى إنما هي تنفيس, عن عجز الإنسان أمام أشياء, لا تستطيع اللغة التعبير عنها, لغة خاصة, لا يتقن أغوارها إلا من كانت نفسه مرآة صافية, تنعكس عليها أسرار الحياة, التي لا يفهمها أو يطلبها إلا من كانت لدية خميرة سامية المعاني, الموسيقى ذلك الجوهر, الذي يقع في النفس؛ فيسلط عليها من أشعة الجمال, ما يسمو بها, كنت أصغي إليها, فأمتلأ بها, ويتكدس باطن النفس بمجموعة رهيبة من المعاني, التي نفشل في البوح عنها, لكن أثرها واضح على الملامح, فهي ثروة, زخيرة من أفانين الحياة, حين تحدثني أوتار عوده, وتُلقي علي ما تبوح به من نغمات, إنها تجعلني حيث تريد, تبكني أو تضحكني, تملأني باليأس أو الأمل, توقظني, تبث فيَ الحياة, ثم هي تُميتُني, أنشط لها, وتجعلني كالخرقة حينا, ما الذي تُشعله في أرواحنا قبل أجسادنا, حرائق ثم تنشب ثورات, وأنت لا تدري فيما شبت الحرائق, ولا قامت الثورات, ولكنك تخوضها وأنت مسلوب, مساق من روحك, إينما تأخذك, كيف تشكل عالم غير محسوس, تنزل الألحان على الأُذن, فإذا هي أصوات منتظمة, تشكل سحراً تستفز النفوس لشيء ما, هي لا تعرفه, ولا تقدر على إيقافه, فتنقاد وأنت أشبه بمخمور, غائب عن الوعي, ولا قوة به على دفع أو هروب, ولكنه قيد تساق إليه, على غير كره منك, يعطي أيضا نشوة أعظم من نشوة الخمر, وأحلى من مذاق العسل المصفى, هذه هي الموسيقى حين تتجول بداخل النفوس, فهي داء, وهي شفاء, نكسة, وانتصار, سلام وغارات, متناقضات تصنعها لنا الأعواد والأوتار, عوالم لا ترى, ولكن يُرى أثرها قوي في حنايا كل إنسان, هل نتجاهل هذا العالم؟ بما يفيض به, ننحيه جانب ونواصل الحياة بدونه, كيف تكون حياة الإنسان؟ إذا انطمست كل آلة تعزف, وأبطلت مفعولها, إن الحياة حينئذ تصبح جامدة, أو جفاف يُغرق الكون كله, إذا ما كانت الموسيقى فقدت عملها في نفس الإنسان, بل الكائن الحي كله, إن الكون إنما هو لحن عظيم, لخالق عظيم, قادر على كل شيء, أن يخلق الحي من الميت, ويخلق الميت من الحي, ويبث في كل شيء جرثومة الحياة, ليصبح الكون لحنا أبديا, ودليلا على عظمة الخالق, فيكون الشفاء من جرثومة الداء, وكما هي تُشقي, فهي تُشفي, وكما تأخذ تمنح وتهب بلا حد, فيكثر عطائها عن كل حد, لتعم وتصبغ الحياة باللون, الذي تحب أن يكون عليها, أحب الموسيقى, إذاً أنا أحب الحياة, وأشعر بها, تدب في أوصالي عند السماع, وتلفني بوميض منها, فتنتشر كالكهرباء في أعضائي, وتسبح عبر أوردتي إلى أعمق مكان في؛ لتؤكد سيطرتها, ويدها حين تبدع, وتخلق أشباح تحوم حول المرء؛ لتسلب لبه وقلبه, فهي رحلات تنطلق من عوالم مختلفة متباينة, المهم أنك هنا أوهناك, لا تملك إرادة, وتمضي بك تحملك طوعاً او كرهاً إلى حيث تقذف بك, راضية مرضية, هذه هي الموسيقى حيث تكون, وأينما تكون, حقيقتها وإن علت وسمت, وبلغت ما بلغت, وتحكمت وأنشأت دولة وسلطان, في كل نفس, ولكل نفس على حدا.