إن الفكر الذي لا يؤمن إلا بنفسه, ليس إلا تطرفا, وما التطرف إلا فكر لا يؤمن إلا برأي واحد, لا يؤمن بغيره, ويكون إيمانه إيمان تقليد, يكون الفكر حرا ومتزنا, حين يكون إيمانه بغيره قائم, وإن أفكاره مهما كانت, وكيف كانت, هي مجرد أفكار قابلة للتغير والتحول للخطأ والصواب, ليس هناك فكرة على وجه الأرض ألا وهي قابلة للحوار والنقاش, والإيمان بها والكفر بها, ليست هناك فكرة ثابته, لا يعوزها دعما منطقيا, ثم هي مناط النقد والنقص عند أخرين, فالفكرة لا بد أن يكون لها جمهور مؤمن بها, وأخر كافر بها, مهما بلغت من رفعة. فما هو الشيء القائم في الحياة غير قابل للتعدد والاختلاف والتشعب؟ الفكرة عالم كبير, فيها ما فيها من ألوان وأشكال ووجهات واختلافات, لا يوجد عصر من العصور, ولا زمن من الأزمنة ولا مكان في الأرض, يحمل الناس فيه رأي واحد في قضية ما, إن إيمان الإنسان الواحد بفكرة ما, قد يتزعزع أو يخفت في وقت من الأوقات, وقد يصبح على النقيض, فيكفر بما آمن به بالأمس, قد يؤمن البعض ببعض الأصول, ثم يختلفون في الفروع, ثم تتعدد الفروع, فيختلفون فيها, لتصير أصول لفروع أخرى, وتتفرع القضية الواحدة ذات الأصول الواحدة, إلى مئات الفروع, وبين الأصول والأصول, والأصول والفروع, تتجدد اتفاقات واختلافات, وتظهر قضايا أخرى, هذه هي طبيعة عقل الإنسان, وطبيعة الفكر الإنساني أن يكون مرنا يتجدد كما تتجدد الحياة دائما, فربما الثبات الوحيد في التغيير الدائم, في أن الخلاف طبيعة إنسانية صحية, في كل أمة, تؤمن بالإنسان وطبيعته, ففي العقائد عشرات من المذاهب, والتعددات, وفي العقيدة الواحدة عشرات الفرق, ثم هي تختلف, إلى أن تصل إلى حد النقيض, ففي الشئون الدينية, كل هذا الكم الهائل من الاختلافات, وفي الشئون الدنيوية تكون الاختلافات أشد وأوسع نطاقا, فلا مجال إلى أن يساق الإنسان بيد من حديد, يرهبه ليحمله على اعتقاد ما, فالقوة التي قد ترهب الأجساد, لا قدرة لها على إرهاب الروح, فيما بينها وبين دواخله وباطنه.