النصوص القرآنية التي وردت بشأن تنظيم الحقوق بين الزوجين جاءت في هيئة كليات عامة ، دون تحديد وتفصيل إلا ماندر ، حتى تفسح الشريعة المجال للبذل والعطاء اللانهائي بين الزوجين ، ونفي الأثرة والمنابذة والضدية ومبدأ حقي وحقك ، وكل المعاني التي من شأنها أن تحطم مؤسسة الأصل فيها أنها قائمة على المودة والرحمة والسكن .
ثم إن آيات القرآن الكريم ردت أمر العلاقة بين الزوجين وتنظيمها إلى ضابط فسيح ، وهو " المعروف " لتظل فوق التحديد والمطالب الندية بين الطرفين ،من مثل قوله تعالى " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف " وقوله " ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف " وقوله " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المحسنين " وقوله " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " وقوله "وائتمروا بينكم بمعروف "
ثم تتوالى النصوص لتأخذ بيد الزوجين إلى ماهو أعلى من المعروف وفوق العدل وهو الفضل " ولاتنسوا الفضل بينكم" لتظل الحقوق بين الزوجين فوق كل تحديد وإن أقره العرف ، وقائمة على التفاني في البذل والحرص على أن يسعد كل طرف صاحبه ولو بالتنازل عن كثير من حقه .
. أما في السنة المشرفة فقد أقر صلى الله عليه وسلم الشراكة بين علي وفاطمة رضي الله عنهما في خدمة بيت الزوجية ، ولم يستجب لابنته وقرة عينه فاطمة حين سألته خادما ، حتى لاتصير هذه سنة تتحول بمرور الزمان إلى إلزام ، فتتمرد كل زوجة على خدمة بيتها متعللة بأن هذا ليس واجبا عليها ، على نحو ماهو حادث الآن .
————————————
والسؤال إذا كان الأمر كذلك فلماذا قضى الفقهاء بأن الزوجة لاتلزم بخدمة بيت الزوجية ، كما يتردد الآن؟
و الجواب بسيط جدا :
أقول : أولا لم يقل كل الفقهاء ذلك وإنما هم على اختلاف ، وأكثرهم يتحدث عن وجوب إخدام الزوجة التي كانت تخدم في بيت أبيها ، أو التي يقضي العرف بأن مثلها لايمتهن في الخدمة لشرفها في قومها .
وثانيا أقول : نحن متعبدون وملزمون بالنصوص ، وأقوال الفقهاء هي في حقيقتها آراء واجتهادات في فهم النصوص ، وفقا للمعطى البيئي والزماني والثقافي والفكري للفقيه ، فالإلزام إنما هو للنص فقط ، وليس لرأي فقيه أيا كان قدره ، لأنه في النهاية بشر يصيب ويخطيء وابن بيئته وثقافته.
وفي تلك الأزمنة التي تأسس فيها الفقه ، كانت المرأة تصنف إما حرة أو أمة ، ولم تكد توجد حرة إلا ولها أمة أو جارية تخدمها ، كان هذا هو نظام المجتمعات العربية غالبا في تلك الفترة ، والأمر لايزال على ذلك في دول الخليج العربي حتى الآن ، ولكن في هيئة خدم أو خادمات . .
فمراعاة لواقع المجتمعات العربية وقتها : أوجب الفقهاء على زوج من اعتادت الخدمة في بيت أبيها أن يأتي لها بخادم يخدمها ، ولم يكن هذا بالشيء العسير وقتها ، بل كان متاحا ومبذولا حتى بالنسبة للأسر المتواضعة ، حتى لم يكد يخلو بيت وقتذاك من خادم أو أكثر . .
وكذا الشأن بالنسبة لقضية الرضاعة ؛ فالمرأة العربية الحرة كانت تأنف بطبيعتها من الإرضاع ، وكان لدى العرب في ثقافتهم نظام الاسترضاع ، إذ كانوا يحمدونه ويرونه مما يسهم في نجابة الولد ، ولذا لم يلزم القرآن المرأة بأمر الإرضاع ، مراعاة لذلك الوضع ، وكذا الحال بالنسبة للفقهاء .
والدليل على أن هذه الآراء الفقهية كلها اجتهادات غير ملزمة ولامقدسة : أن هناك من الفقهاء كابن تيمية مثلا -و مع تغير البيئات والأحوال في زمانه عما كان سلفا - قضى بإلزام المرأة بالخدمة في بيت الزوجية وقال: تضرب إن امتنعت عنها . وطبعا أمر الضرب هذا لانقره عليه بحال ، كما لانقره على القول بالإلزام هكذا على إطلاقه .
والخلاصة هي أنه لانصوص تفصيلية تحدد ماذا يجب على المراة تحديدا بالنسبة لقضية خدمتها في بيت الزوجية ، وكذا الحال بالنسبة لأمر الإرضاع ، وإنما ندب القرآن الكريم إلى الفضل ومراعاة العرف ونفي الإضرار حال النزاع " لاتضار والدة بولدها ولامولود له بولده "
يعني لاتمتنع الأم عن إرضاع طفلها نكاية في الأب ، ولايمنع الأب الأم من إرضاع ولدها نكاية فيها " وائتمروا بينكم بمعرف "
هذا هو المنهج القرآني : إقرار التفاهم والشراكة والمشاروة والبذل ومراعاة المعروف ،والسعي إلى المعاملة بالفضل الذي هو فوق العدل . وعلى الزوجين أن يتباريا في ذلك.
والحقيقة أن المرأة المصرية في كافة عصورها لهي نموذج فريد معطاء في ذلك ، وماعهدناها إلا متفانية في خدمة أسرتها ، وماعرف عنها هذا الوجه الترفي الذي شهدته غيرها في بيئات أخرى ولاتزال ، حتى وان كانت من أرفع البيوتات المصرية وأشرفها ، فهي تأبى إلا أن تخدم زوجها وأولادها ،ولاتطعمهم إلا من يدها ، وهي في غاية السعادة والفرح بل والطرب، حين تشهد أسرتها تأكل وتلبس من صنعة يديها .
وفي النهاية أقول : لقد أرجع القرآن والسنة أمر الحقوق بين الزوجين إلى المعروف والفضل ، فلترد اليهما ، وليرفع الفقه يده ولتتنحى الفتوى عن هذه القضية وأمثالها ، ولتترك البيوت تدير أمورها بما يناسبها .
ولايوجد زوج سوي يرى زوجته تتحمل ماهو فوق قدرتها من مجهود البيت ، وهو يقدر على أن يعينها بنفسه ،أو يأتي لها بخادم ولايفعل .
كما لا توجد زوجة سوية ترى زوجها يكد خارج البيت حتى يستطيع بالكاد أن يوفر لها ولأبنائها متطلبات الحياة ، ثم تسأله أن يأتي لها بخادم ، وهي تعلم عدم مقدرته على ذلك.
اتركوا البيوت وشأنها ، وكفانا اجترارا للتراث لنحتكم إليه في أوضاع عصرية وحياتية مغايرة ، وكفانا كذلك اجترارا للفقه كله إلى مناطق ليست من مهماته" أنتم أعلم بشئون دنياكم "