في بلادي الناس مولعون بمحاولة الحط من أقدار ذوي الشأن فيهم على اختلاف وظائفهم وتخصصاتهم لأدنى ملابسة ، وهذه آية من آيات الحقد المجتمعي ، وإن تسترت بستار النقد المشروع ، أو حق كل إنسان في إبداء رأيه بحرية ونحو ذلك .
ماللحرية والبجاحة والتوقح وإساءة الأدب ؟
شيء محزن حقيقي أن يتطاول السفهاء على ذوي الأقدار بهذا الصلف !! من غير المحتمل أن نرى من يبدو من منطقهم أنهم قوم سوقة بلهاء يعلقون على فتوى مثلا أو معلومة صادرة من قوم مؤهلين بكثير من السب والتجريح والتخوين ، بهدف خلق حالة من اللجاجة والجدل ، تفتقد إلى أدنى مستوى يمكن تخيله من الموضوعية والأدب والثقافة .
أصبحت أشفق على كل عالم أو مصلح يصر على أن يظل ملازما مقام المجاهدة في الناس محاولا إصلاح عطب تفكيرهم وفساد ضمائرهم .
وأعتقد أن هذا هو أوان (وليسعك بيتك وابك على خطيئتك ) كما قال صلى الله عليه وسلم .
وقديما اتخذ كثير من العلماء الأكابر سلوك العزلة ، مؤثرين العكوف تماما على التصنيف والتأليف ، وكأنهم يئسوا من أهل زمانهم فعكفوا ينتجون علما لأجيال لم يروها، أقنعوا أنفسهم بأنهم سيكونون أفضل ، ومن ثم جادت قرائحهم بهذا الإنتاج العلمي الضخم كما وكيفا.
المشكل الآن أنه لاشيء في الأفق يلمح إلى هذه البشرى في قناعة علماء هذا الزمان ، فدائما في جلساتهم يرددون ماروي عنه صلى الله عليه وسلم ( لايأتى زمان إلا والذي بعد شر منه حتى تلقوا ربكم ) .
كما عرف عن بعض السلف هجرتهم إلى حيث لايعرفون ولايشعر بهم أحد ، ثم اجتهادهم في إخفاء أنفسهم وربما تظاهروا بالجهل والأمية حتى لايعرفون ، ولعل أفضل من عبر عن هذه الحالة شعرا أبو العلاء المعري في قصيدة له معلومة ، قال فيها :
لما رأيت الجهل في الناس فاشيا
تجاهلت حتى ظن أني جاهل .
وعبر عنها أبو حامد الغزالي سلوكا وكلاما ، حين اعتزل الناس بعد أن ذاعت شهرته فيهم ، لما أبصرهم يسمحون لأنفسهم بمجادلته ، بما يظهر من حجم جهلهم وربما سفههم ، وهو من هو : إنه حجة الإسلام الغزالي ،!!!
تصبر الغزالي حينا ثم لما ضاق ذرعا بهذه الحالة من الجهل المتبجح ، ذهب فاعتزل الناس جميعا في منارة مسجد دمشق ، ولدرجة أن كان يجلس فيها طوال النهار ، مغلقا بابها على نفسه ، وقد عبر شعرا عما حدا به إلى هذا المسلك فقال :
غزلت لهم غزلا رفيعا فلم أجد
لغزلي نساجا فكسرت مغزلي
حالة من الإحباط واليأس من إصلاح العامة والغوغاء ، مع الشعور بالعجز التام عن التغيير ،دفع به دفعا إلى البرية مؤثرا الصمت والعزلة التامة ، لاسيما بعد أن شوش عليه السوقة وشغب عليه الحقدة من الأتراب والأقران ، بل واتهموه بالزندقة والابتداع ، تلك التهم الجاهزة للقذف بها في وجه كل مصلح ومبدع في عالمنا المنكوب .
لم يطق الغزالي رحمه الله أن يظل مقيما في هذا الوسط المحبط ، فانزوى بعيدا ولكنه أبدا ماترك التصنيف ، فالمصنفات هي التي تبقي ذكر العالم وتزيده مع الأيام جلاء ورواء . أعلم أن كثير ا من العلماء والمفكرين في هذا العصر يتمنون لو يسلكون مسلك الغزالي رحمه الله في العزلة ، فرارا من هذا الجهل المطبق وتصدر الأقزام والسوقة ، ولكنهم دائما ما يرجعون بخفي حنين كما يقول المثل ، فلم يعد أمر الاعتزال سهلا في عصر تعقدت مشكلاته وازدادت أعباؤه إلى درجة كان يصعب تخيلها ، وحتى لو غامر مغامر بنفسه وقوته وأولاده واعتزل ، أتراه يقوى على أن يخرج من عزلته بمثل ما خرج به الغزالي ، وهل يتركه اهل الشغب والإفك في حاله !! أعتقد أن من يفعل أو يحاول أن يفعل لن يعدو صنيعه إلا أن يكون نوعا من قبيل موت الأحياء باعتزال الموتى !