تزويج البنت نفسها دون ولي بشرط الكفاءة في فقه الإمام أبي حنيفة :
في إجابة لي عن تساؤل من إحدى المتابعات حول تزويج البنت نفسها دون ولي، كانت إجابتي : هذا الزواج جائز على رأي الإمام أبي حنيفة ، ولكن بشرط أن تزوج نفسها من كفء ، وإلا كان لأوليائها الحق في طلب فسخ النكاح .
وقد وجدت بعض التعليقات من أستاذة فاضلة وبعض صديقات الصفحة ، يبدين تحفظاتهن على شرط الكفاءة هذا ، باعتباره لم يرد في القرآن الكريم ، كما أنه في رأيهن يمثل وصاية على البنت ومعاملتها كسفيهه ، هذا بالإضافة إلى كونه غير منضبط كمعيار ، بل ويحمل معاني طبقية اجتماعية تمييزية الخ ماقلنه.
وأقول للأستاذات الفاضلات : الحقيقة أنني لم أتعد في إجابتي على السائلة حدود نقل رأي الإمام أبي حنيفة فقط في المسألة ، ومن ثم فهذه التحفظات لاتمسني في الحقيقة ، ومع ذلك رأيت أن أتناول وجهة نظر الإمام بشيء من التوضيح ، فربما زال اللبس وتقاربت وجهات النظر ،وهذا هو المطلوب .
وأبدأ فأقول : جمهور الفقهاء على أنه لايجوز أن تزوج البنت نفسها ، وإن فعلت فنكاحها باطل ولها المهر بما استحل منها ، عملا بما روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها " أيما امراة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل .."
أما الإمام أبو حنيفة رحمه الله فقد أجاز لها ذلك لأن هذا الحديث ، الذي روته السيدة عائشة رضي الله عنها فعلت خلافه ، حين زوجت بنت أخيها عبد الرحمن وهو غائب بالشام ، والقاعدة عندهم أن العبرة بما عمل الراوي لابما روى .
ومضى جمهور الحنفية على رأي إمامهم ،بشرط أن تزوج الفتاة نفسها بكفء ، فإن لم تتزوج بكفء ، كان لأوليائها الحق في طلب فسخ النكاح.
ووجهتهم في ذلك : أن النسب حق للعائلة ولايخص البنت وحدها ، فمن حقهم أن تكون هناك كفاءة في النسب ، فلا تدخل عليهم ابنتهم من دونهم فيعير ون به .
ونحن نعلم أن النسب كان ولايزال له شأن عظيم عند العرب ، فهو عندهم من العلوم الشريفة التي يتوارثونها ، ولذا نرى شرط الكفاءة في النسب شرطا متفقا عليه بين الفقهاء ، باعتباره عرفا اجتماعيا سائدا ، والشريعة راعت الأعراف مع تهذيب بعضها ، كما هو معلوم .
ولكنهم اختلفوا في تفاصيل معيار الكفاءة اختلافا كبيرا ، وهذه الاختلافات ترجع كلها إلى اعتبارت عرفية اجتماعية ،ولكنهم عادوا فقرروا أن العالم كفء ولو لبنت الخليفة ، وأن معيار الصلاح يكفي لتزويج من جاء يخطب البنت ولو كان فقيرا ، بل ويقدم على من دونه في الصلاح ولو كان غنيا أو ذا نسب شريف ، بل إن من الفقهاء من أجاز الخطبة على الخطبة إذا كان الخطيب الثاني أتقى وأصلح وهكذا .
والمتأمل يجد أن الفقهاء جميعا والحنفية تحديدا لم يخطئوا في المطلق ،حين اعتمدوا شرط الكفاءة في الزوج لأنه - وهذا أمر نبصره ونشاهده حتى في عصرنا - قد تكون الفتاة من أسرة عالية الشأن صلاحا وعلما وغنى ونسبا ومكانة اجتماعية الخ ، ثم تقرر الزواج من شاب يفتقر إلى كل ذلك أو أكثره بدعوى أنها تحبه ، وكثيرا ماتفشل مثل هذه الزيجات إثر انغلاق باب واحد عليهما ،حين تبدو الهوة سحيقة بين الزوجين غير المتكافأين ، ولايصمد هذا الحب الذي توهماه شهرا واحدا ، وقد تنجح مثل هذه الزيجات ولكن في النادر ، والنادر لاحكم له كما قرر الفقهاء. .
وأرى أن دفاعنا عن البنات المقهورات من قبل أوليائهن ،لايعني التسليم لهن فيما يوردهن المهالك ، ولايعني كذلك إسقاط حق الوالدين والأسرة في أن يضيفا إلى أسرتهما شابا يفخران به ولايعيران .
ولكني أعود فأقول :حين توفق البنت في اختيارها فتختار شابا لطموحه العلمي مثلا ، أو لصلاحه أو لتقواه ولكنه دون أسرتها مالا أو مكانة ، هاهنا لايجب أن يقف الأهل ضد زواجها تعنتا ، فإن أصروا كان لها الحق في أن تزوج نفسها وزواجها صحيح ، وفق مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله .
فإن رفع أهلها الأمر إلى القاضي بطلب فسخ النكاح لعدم الكفاءة - في نظرهم - فإن هذا ليس معناه إجابة الأهل إلى طلبهم من قبل القاضي ،ثم فسخ النكاح هكذا دون نظر منه وتحقيق في الأمر ، ولكن عليه أن يحقق ويدقق ، ثم يؤيد صاحب الحق ، وهذا مايحدث حقيقة .
لكن يبقى أن تزويج الفتاة نفسها دون ولي صحيح عند الحنفية ، وهو المعمول به قانونا ، وإن تشاجرت أو اختلفت مع أوليائها ،فإن السلطان ولي من لاولي له ،كما قال صلى الله عليه وسلم .