كان للعرب في بداوتهم أسواق ينشدون فيها الشعر ، ويعقدون فيها مجالس للنقد ، وكان لهذه الأسواق اعتبارها إلى درجة أن ماكانت تزكيه وتشهد له من القصيد ، يغدو إرثا ثقافيا وحضاريا للعرب والعربية يخلدونه بوسائلهم البدائية ،كأن تكتب القصيدة بماء الذهب ثم تعلق على الكعبة فخارا واعتزازا .
المدهش أن هذه القصيدة التي حازت إعجاب آحاد النقاد وقتئذ ،ظلت لها قيمتها الفنية والأدبية على مر الدهور ، تتوارد عليها الأجيال والثقافات وهي لاتزال تراها قيمة ، في حد ذاتها ، ولم نسمع عن أحد قال عن واحدة منها مثلا : لقد تخطتها البشرية ، ولم تعد شيئا مذكورا .
وتروح الأيام وتذهب الدهور ويخترع البشر نظام منح الدرجات العلمية على مايفترض أن فيه إبداعا وقيمة علمية ، لافي الأسواق البدائية ، ولكن في أفخم الجامعات ومراكز البحث ، وفي أبهى القاعات ، ووسط أساتذة يرتدون ثيابا فخمة مفخمة ، ويحملون درجة أستاذ أو بروفوسور ، .
وبالطبع نقلنا هذه الأبهة إلى بلادنا ، وظلت الدرجات العلمية محتفظة بقيمتها بعض الوقت ، ولكن مع حب التلهي بالعلم في العصر الحديث ، إحرازا للشهادات وخلافه فرغت هذه الدرجات العلمية من قيمتها تماما .
ولن أتكلم هنا عن موضوعات الرسائل المستهلكة ، ولاعن الإشراف العلمي الذي في أكثره شكلي ، ومبتور الصلة بين الباحث والأستاذ ، ولن أتكلم كذلك عن جل المناقشات التي غدت هي الأخرى شكلية ، وتسودها ثقافة "استر علي لأستر عليك" بين الأساتذة ، فالحوارات هي الحوارات ،والأسئلة التي توجه للباحثين هي نفسها ، لماذا لم تذكر كذا ؟ ولم قلت هذا الكلام ؟ ولم لم تستعن بكتابي كذا - على أساس أن ماكتبه الأستاذ المناقش هو المرجع الأوحد في الموضوع - وأين رأيك في كذا. الخ
وقد يطبطب الأساتذة المناقشون - إلا من رحم ربي - على الباحث الضعيف جدا لأسباب لاأحب ذكرها ، وقد يسلطون سهامهم على ظهر باحث آخر مع أنه قد يكون أفضل من صاحبه هذا بكثير ، أيضا لأسباب لاأحب ذكرها ،فينكمش على نفسه ولاينطق . ثم تعلن النتيجة للجميع : امتياز أو مرتبة الشرف الأولى ، وكثيرا مايضيفون : مع التوصية بالطبع والتداول .
أما الباحثون الحضور من زملاء الطالب فهم يعلمون سلفا نهاية ماسوف يشاهدونه من فصول المسرحية الهذلية وإن لم ينطق صاحبهم ، مادامت اللجنة فيها فلان وفلان والمشرف فلان الفلاني العلم البارز .
وأذكر أنني حضرت مناقشة فخمة مفخمة لأساتذة ملء السمع والبصر، وإذا بالمشرف على الطالب يجلس منهمكا يقلب صفحات الرسالة ويكتب كثيرا ، وبعد أن انتهت لجنة المناقشة التي كيلت للطالب المديح من مهمتها ، إذا بالأستاذ المشرف ينقلب مناقشا ، ثم يصف رسالة الطالب بعد ساعة من مناقشته بالهراء وأنها كلها خارج الموضوع ، ولامنهجية فيها على الإطلاق .
وحبست أنفاسي لما توقعته بعد ذلك ، إذن سترفض الرسالة وسيعود الباحث بخفي حنين .
ولكن يالهول المفاجأة : النتيجة دكتوراه بمرتبة الشرف الأولى مع التوصية بالطبع والتداول بين الجامعات ، لأهمية الرسالة وقيمتها العلمية .
وقتلني الفضول لأعرف تفسير ماحدث ، فعلمت أن هذا الأستاذ لايفتح رسالة من يشرف عليه مطلقا إلا على المنصة، وقت انعقاد اللجنة ويصرح بذلك بكل صلف وغرور ، ولكن تأبى عليه كرامته إلا هذه النتيجة لكل رسالة تحمل اسمه ، ثم إنه يتعامل مع لجان بعينها يمكنه السيطرة عليها ، ثم يرد هو هذا الجميل لهؤلاء الأساتذة حين يدعونه لمناقشة رسائلهم التي لايعرفون عنها شيئا كذلك.
إنها أسوأ مافيا وأقبح تجارة تدار في بلدنا الحبيب مصر ، حتى باتت بعض الدول التي قد لاتحتل حيزا على الخريطة ترفض الاعتراف بهذه الرسائل الممنوحة في جامعاتنا .
ماهذا الذي نفعله ببلادنا وتاريخنا؟ بل ماهذا الذي نفعله بأجيال المستقبل ؟
والأكثر : ماهذا الذي نفعله بالعلم وقيمة العالم والدرجات العلمية؟
لقد كان العرب في جاهليتهم شرفاء يرفضون الزيف ، وخصوصا إذا اقترب من الحضارة والهوية والتاريخ، ولذا بقيت لغتهم ومآثرهم مع انعدام وسائل تخليد الذكر لديهم ، ولكنها عدالة السماء " فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض "
ومع كل هذا الزيف إلا أنه لايزال أولوا بقية من علمائنا الأجلاء الشرفاء يصرون على محاربة هذا الفساد بكل مايملكون ، أو على الأقل يحرصون على النأي بأنفسهم عن الاقتراب من مواطن الزيف والزخرف هذه ، وهذا أضعف الإيمان ، ولهم الله فيما يعانون .