لا أدري متى و لماذا تحولت قضية الاعتقاد بوجود آيات منسوخة في القرآن الكريم إلى قضية عقدية ، قد يحكم بكفر من ينكرها ، مع أنه من غير المناسب في رأيي أن بعتقد المسلم هذا الاعتقاد في كتاب الله تعالى ، وهو الذي يؤمن بقداسته وعصمته وأبديته قولا واحدا لاريب فيه ، لأن معنى قولنا إن هذه الآيات التي في سورة كذا وكذا منسوخة ، يعني أنها موجودة في المصحف للتعبد بتلاوتها فقط ولكن لايعمل بها ، بل إنني أزعم أننا بهذا القول نقدم أكبر خدمة يمكن تقديمها لأصحاب التوجه الحداثي العصري ، أعني من لايؤمن منهم بقداسة النص القرآنى جملة وتفصيلا ، لكونه عندهم منتجا ثقافيا مثله مثل أي نص ، ومن ثم فلا حرج في ثقافتهم حين لايناسبهم نص قرآني به تشريع معين أو حكم معين ، أن يحكموا بوقف العمل بهذ النص ، بل ويقولون بكل بساطة : هذه الآية لم تعد مناسبة لعصرنا ، تماما كما يقول من يبررون لوجود آيات منسوخة في القرآن الكريم من التراثيين ، بأنه حين ارتقت البشرية بالإسلام ولم تعد بعض الآيات مناسبة لها نسخت ، ومنها مارفع من المصحف وبقي حكمه ، ومنها مابقيت تلاوته ونسخ حكمه الخ .
………………………….
و بعد بحث ومناقشة لبعض من يؤمنون بوجود آيات منسوخة في القرآن الكريم ، بل ويتعصبون لذلك أيما تعصب ، وجدت أنهم يستدلون على توجههم هذا بأمرين :
الأول: أن القرآن الكريم نفسه تحدث عن قضية النسخ إما بالنص عليها لفظا نحو قوله تعالى( ماننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) . وإما بالإشارة إليها معنى، كقوله تعالى ( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر ) .
الثاني : الروايات الكثيرة التي افادت وقوع النسخ في القرآن الكريم ، لاسيما وأن منها ماله أصل في الصحيحين .
—————————————
وللجواب عن ذلك أقول بإيجاز : أما عن الآيات فهناك دراسات عميقة أفردت هذه القضية بالبحث ، وانتهت إلى أن القرآن الكريم لم ترد فيه كلمة ( آية ) بمعنى جزء من نص قرآني إلا مقرونة بكلمة ( تتلى ) أومافي معناها نحو قوله تعالى " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات …." و قوله تعالى " يكادون يسطون بالذين يتلون عليه آياتنا " وغيرهما ، أما ماسوى ذلك فلم تأت كلمة ( آية ) إلا بمعنى آية كونية أو معجزة أو نحو ذلك .
ومن يراجع آيات القرآن في هذا ويتأمل سياقاتها ، سوف تتبدى له هذه الحقيقة جلية واضحة .
وأما عن السنة المشرفة : فأشهر مايذكر في ذلك الحديث الذي رواه ابن ماجه وغيره عن عائشة رضي الله عنها من أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة ، وكان مما أنزل فيها آية تحر يم الرضاع بعشر ، وآية رجم الزاني المحصن - ومن ثم بقي حكم هذه الآيات - أما نصها وباقي آيات السورة ، فقد أكلت داجن - أو شاة صغيرة - الصحيفة التي كانت بها هذه السورة ، حين تسللت إلى تحت السرير الذي توفي عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد شغلوا بتغسيله صلى الله عليه وسلم وتكفينه ، حسب كلام عائشه رضي الله عنها في هذه الرواية المكذوبة ، وإن صححها من صححها .
…. ………..
لب القضية إذن أنه يجب أن نقر مثل هذه الروايات حتى لانتهم بإنكار السنة ، وإن كان منها مايذهب بقداسة القرآن الكريم جملة تفصيلا ، ويتعارض صراحة مع قوله تعالى " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" ويتعارض كذلك مع أدنى منطق إنساني مقبول .
أيها السادة ! قليل من الاحترام لعقولنا يرحمكم الله.
……..…
ولمن يحب مدارسة هذه القضية أحيل إلى كتابين مهمين :
١- النسخ في القرآن الكريم لأستاذنا الدكتور مصطفي زيد .
٢- لانسخ في القرآن الكريم للشيخ عبد المتعال الجبري . رحمهما الله تعالى ورضي عنهما .