التخطيط المستقبلي خلق قرآني أصيل ، وفي سورة يوسف عليه السلام تأكيد على هذه الحقيقة ، حيث قص علينا القرآن الكريم كيف خطط نبي الله يوسف عليه السلام لإنقاذ مصر من خطر مجاعة مرتقبة ، تغطي أنحاءها لسبع سنوات كاملة .
فالتدبير والتخطيط للمستقبل لايتعارض مع الإيمان بالغيب ، والتسليم له تعالى فيما هو كائن وماسوف يكون .
وكثيرا مايجهد الإنسان نفسه في التخطيط والتدبير ، ثم تأتي النتائج على عكس ماهو متوقع ، اختبارا من الله وتمحيصا ، فهل سيسلم هذا المدبر لقدر الله تعالى فيه أم لا ؟
وعلينا أن ندرك إثر كل فشل نمر به بعد دراسة منا وتخطيط ، أن الله تعالى يعرفنا على نفسه ، لتتأكد لدينا حقيقة أن مقاليد السماوات والأرض بيده ، وأنه وحده مالك الملك يؤتيه من يشاء وينزعه عمن يشاء …
وفي هذا المقام أرشد إلى كتاب " التنوير في إسقاط التدبير " لحكيم الصوفية ابن عطاء الله ، فهو خير من عالج هذه القضية المحيرة ، وحاول إنقاذ الغارقين في التدبير والتخطيط ، الموقنين بأن مابنوه من مقدمات حتما سيقود إلى مايتوقعونه من نتائج ، وحين تتخلف نتائجهم أو بعضها يسلمون أنفسهم إلى حالة من اليأس والمرض والاكتئاب ربما تقضي عليهم …
في هذا الكتاب استطاع ابن عطاء الله أن يأخذ بيد هؤلاء اليائسين من محدودية العقل إلى فضاء الإيمان بالغيب.
ونسبت إليه في هذا مقولة شهيرة ، أرجو أن تقدر حق قدرها وتنزل في مكانها ، وهي قوله :
" إذا أردت أن تدبر فدبر أن لا تدبر "
وفي المعنى نفسه يقول أحد العارفين شعرا :
لاتدبر لنفسك شيئا فأولو التدبير هلكى
سلم الأمر تجدنا أولى بك منكا
وقال آخر :
سهرت أعين ونامت عيون
في أمور تكون أو لا تكون
فادرأ الهم مااستطعت عن النفس
فحملانك الهموم جنون
إن ربا كفاك ماكان بالأمس
سيكفيك في غد مايكون
وفي القرآن يقرر الله تعالى انفراده بالتدبير الأعلى " يدبر الأمر من السماء إلى الأرض " ويعلنها حربا على كل من يظن أنه يملك شيئا من أمر الغيب بتدبيره وتقديره
"فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر "
والخلاصة هي أنه على كل واحد منا أن يتخذ كل احتياطاته ، ويتسلح بكل مافي مقدوره من أسلحة التدبير والتخطيط للمستقبل ، ثم إن جاءت الأمور وفق توقعاته فالحمد لله أولا وآخرا ، وإن جاءت على العكس من ذلك فالحمد لله كذلك .
وحين يحمد إنسان ربه من قلبه لحظة فشل تخطيطه وتدبيره ، يفاجؤه الكريم بما لا يخطر له على بال من لطائف كرمه ومنننه ،
ساعتها سيقول من أعماق قلبه بعد أن تتكشف له الحكمة مما ظنه منعا : الحمد الله لقد اختار الله لي الأفضل ومنع عني ما فيه هلاكي ، أو على الأقل منع عني مالا خير لي فيه .
واللهم الطف بنا في قضائك وقدرك لطفا يليق بكرمك ياأرحم الراحمين .