سائلة تسأل عن رأيي في هذه المسألة في فقه الشيعة مقابل رأي السنة الذين يورثون معها الأعمام وبنيهم وهو المستقر عليه في مصر في الفتوى والقضاء وكذا في سائر بلاد المسلمين من غير الشيعة وتحديدا الشيعة الجعفرية .
أقول باديء ذي بدء : الشيعة الجعفرية ونظراؤهم من الإمامية والإسماعيلية في مذهبهم الفقهي لهم اجتهادات انفردوا بها عن أهل السنة بالنظر إلى بعض أصولهم الاجتهادية التي لم يعتد بها غيرهم من جمهور الأصوليين السنة .
وأبرزها أنهم لايقبلون المرويات التي نقلت من طريق غير طريق آل البيت مهما بلغت درجة صحتها ، وهذا في حد ذاته أوجد خلافا في بعض الأحكام بينهم وبين السنة من الصعب الالتقاء فيها .
لكنا مع ذلك نجد لديهم بعض الأحكام الفقهية التي أخذ بها المشرع المصري لما رأى أن المصلحة تقتضي ترجيحها على رأي الجمهور بل والقضاء وفقها ، كمسألة الوصية للوارث مثلا .
فجمهور السنة يرفضون الوصية للوارث عملا بحديث " لاوصية لوارث " وقليل جدا من يورثه بشرط أن يكون برضى الورثة عملا بحديث " لاوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة " وهو ماذهب إليه الشيعة الجعفرية فيما زاد عن ثلث التركة ، يعنى إذا وصى المورث لوارث له بشيء من تركته فله ذلك حتى الثلث ، أما إن زاد عن الثلث فلا يأخذه إلا برضى الورثة ، وهذا هو ماأخذ به القانون المصري الحديث .
نعود مرة أخرى إلى ميراث البنت عند عدم وجود أخ لها ، محل السؤال :
أقول : يرى الشيعة الجعفرية أن البنت في هذه الحالة تأخذ نصف التركة فرضا - لنص القرآن على ذلك - والباقي ردا يعني يرد ويرجع إليها ، ولايأخذ أعمامها أو بنوهم شيئا من هذه التركة .
حجتهم :
أولا : أن البنت هي الأقرب إلى الميت ومن ثم فهي أحق بتركته كاملة ، والقاعدة عندهم لايورث الأبعد في وجود الأقرب .
ثانيا : أن كلمة الولد - وهذا استدلال مهم - في القرآن تطلق على الذكر وعلى الأنثى ، ومن ثم فلا داعي للتفرقة بينهما عند الانفراد بالتركة ، فكما يأخذ الولد التركة كلها إذا انفرد فكذلك البنت أو أخته ، مع فارق أن الولد يأخذها كلها بمقتضى الفرض فقط ،أما هي فبقتضى الفرض وبمقتضى الرد كما ذكرت سلفا .
ثالثا: أن عمدة استدلال أهل السنة هنا - والذي لأجله لم يورثوا البنت التركة كلها وأعطوها فرضها أو النصف فقط والباقي لعمها او ابنه وإن نزل - حديث " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر " يعني تأخذ البنت فرضها وهو النصف والباقي يكون لأقرب ذكر من الميت وهو أخوه ، الذي هو عم البنت أو ابنه وإن نزل في حال عدم وجود العم وهكذا .
فهذا الحديث على الرغم من أنه صحيح عند أهل السنة لأنه من رواية البخاري ، وكان من المفترض أن بعتد به الشيعة لأنه من رواية ابن عباس الهاشمي المطلبي رأس آل البيت ، إلا أنهم لم يأخذوا به وردوه ، لكونه مما رواه طاووس عن ابن عباس ، وطاووس غير ثقة عندهم ولايقبلون روايته عن ابن عباس ، بينما يوثقه أهل السنة إلا نفر قليل جدا ، ويقبلون روايته عن ابن عباس رضي الله عنهما .
ولمزيد من الإيضاح سوف أجيب هنا عن بعض الأسئلة التي أراها تفرض نفسها الآن :
س١ : هل رأي الشيعة الجعفرية مرفوض قولا واحدا ؟
أقول : من الناحية الأصولية هو رأي اجتهادي كسائر الآراء الاجتهادية عند أهل السنة ، يعني يحتمل الخطأ والصواب .
س٢ هل في المسألة إجماع فيحب رد رأي الجعفرية هذا والحكم بضلال من يقول به ؟
أقول : بكل وضوح لدي تحفظ على كل مسألة حكي فيها الإجماع ، سوى ماهو معلوم ضرورة لكل مسلم ، مما لاخلاف فيه مطلقا كعدد ركعات المغرب ثلاثا والعصر أربعا ، وحرمة السرقة والزني والقتل …الخ
وهذا قول لم أبتدعه من عندي وإنما هو تحديد الإمام الشافعي رحمه الله للإجماع نصا في رسالته وفي كتاب جماع العلم ، وعلق الأستاذ أحمد شاكر على كلام الإمام الشافعي قائلا بأن الإجماع هكذا لايثبت عند الشافعي إلا في ماهو معلوم من الدين ضرورة مما لاخلاف حوله مطلقا .
يعني في الثوابت التشريعية التي تواترت عبر العصور المختلفة للمسلمين جيلا بعد جيل
منذ عصر الصحابة وحتى يومنا هذا .
وأقول : توريث العم مع البنت عند أهل السنة لايرقى إلى هذه الدرجة وهذا التحديد والضبط الدقيق للإجماع عند الشافعي ، بدليل أن ماكانت عليه الفتوى والقضاء في مصر وداخل أروقة الأزهر الشريف طوال حكم الفاطميين لمصر هو توريث البنت التركة كاملة إذا انفردت فرضا وردا وفق المذهب الشيعي الفاطمي ، ثم لما تحولت مصر إلى المذهب السني في عهد صلاح الدين الأيوبي استقرت الفتوى على ماهي عليه الآن وفق المذهب السني .
ثم إن الشيعة الجعفرية مسلمون موحدون ، ولدي تحفظ على إخراجهم من أهل الإجماع ، إذ كيف يقال إجماع وهم مخالفون له هكذا ؟
وأستانس هنا برأي الشيخ شلتوت شيخ الأزهر الأسبق رحمه الله حين قال قولته المشهورة : يجوز التعبد بمذهب الشيعة الجعفرية الاثنا عشرية كسائر مذاهب أهل السنة .
يعني يجوز العمل ببعض آرائهم الفقهية وليس الاعتقادية التي فيها كثير من الغلو ، شأنهم في ذلك شأن أهل الغلو بشكل عام.
طبعا هذا الكلام ربما يكون صادما للبعض ، ولكن مما يهون من وقعه على الأنفس هذا السؤال :
لماذا إذن نتحاكم في قانون الوصية للشيعة الجعفرية على الرغم من حكي الإجماع فيها عند أهل السنة وفق ماقرروه ، إن كانت موافقة الجعفرية في حكم فقهي تعد مروقا من الدين ؟ إذ القول بأنهم ليسوا من أهل الإجماع معناه أنهم قوم مارقون بلا ريب عند من يعتقد ذلك .
سؤال آخر أوضح : هل يجوز لأحد الآن في مصر مثلا أن يورث ابنته التركة كلها ، وفي نيته حرمان عمها مثلا ؟
أقول : لا يجوز ، لأن القانون عندنا يقضي برأي أهل السنة ، والقاعدة أن حكم الحاكم يرفع الخلاف ، وعليه فلا يصح تعمد توريث البنت التركة كلها في بلادنا وحرمان العم ومخالفة القانون في ذلك .
وماالحل إذن ؟
أرى أنه لامانع من إعادة بحث ومناقشة هذه المسألة في ضوء المصالح والعلاقات الأسرية المتغيرة الآن ، بأن تطرح هذه القضية للحوار حولها في المجامع الفقهية ، ثم في المجالس التشريعية للأخذ بمافيه المصلحة لعموم الإناث .
ولايقولن أحد أنت هكذا تؤسسين للمذهب الجعفري على حساب المذهب السني ، إذ الرد واضح : وماالفرق بين هذه المسألة ومسألة الوصية ؟
و ألفت النظر إلى أمر مهم وهو أنه مع التغير الواضح الذي طرأ على العلاقات الأسرية تراجع دور العم كأب بعد الأب في كثير من الأسر ، والذي لأجله يرى الجمهور أن من الحكمة أن يكون له نصيب من التركة مقابل ماسوف يتحمله من مسئولية عن البنت أو الإناث بعد رحيل عائلهم .
فهناك من الأعمام من يتعمد الاستيلاء على حق الاناث ولايتورع حتى في حياة أخيه من الجوء إلى الحيل غير المشروعة في سبيل ذلك ، وأروقة المحاكم المكتظة بما لايحصى من القضايا من هذا النوع تشهد لما أقول .
وأتمنى أن يتعجل المشرع المصري إعادة النظر في هذه المسألة في ضوء التغيرات التي خلخلت بنيان العلاقات الأسرية في عصرنا الحديث ، خاصة حين يكون العم مضيعا للحق أو يسعى للاستيلاء عليه .
يعني لابد من تشريع يحفظ حقوق الإناث في هذه الحالة .
يتبع برأي الشيخ أبي زهرة في هذا المسألة في المنشور التالي بإذن الله.
وهذا يعني أنني لم أنته من عرض الموضوع بعد. وبالتالي فلن أرد على أية استفسارات حتى يتم كاملا بإذن الله .