جدد فهمك: 

في فضل ليلة النصف من شعبان ورد حديث شريف مفاده : أن الله تعالى يتجلى في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن " والحديث رواه ابن ماجه في سننه ،وحكم بعض المحدثين عليه بالصحة .

 وسواء أصح الحديث أم لم يصل إلى درجة الصحة ؛فإن الإشكال في نظري لايكمن في ذلك، وإنما تكمن الإشكالية فى طريقة فهمه وتفسيره ،ثم في إشاعة هذا الفهم للناس من قبل كثير من الخطباء والمتصدرين للفتوى والخطاب الدعوي بشكل عام ،حتى ظن أكثر الناس أن مجرد وجود أي نوع من أنواع الهجر أو الخصام بين مسلمين متشاحنين في ليلة النصف ، يجعلهما محرومين من نفحات هذه الليلة ومن عفو الله سبحانه وتعالى عنهما ،حتى وإن كان أحدهما مظلوما أو وقعت عليه إساءة بالغة ،تتصل بالخوض في عرضه مثلا ،أو السطو على ماله أو مؤلفاته ونسبتها إلى نفسه أو نحو ذلك .

والمنهج العلمي في تفسير النصوص تفسيرا صحيحا ،يبدأ بالرجوع إلى اللغة في سبيل تحديد المعنى المراد للفظة المطلوب تفسيرها ، قبل الإصغاء لرأي أي مفسر أو فقيه .

وبالنظر في كلمة " مشاحن " نجد أنها تعني معجميا : الشخص الممتليء النفس بالحقد والشحناء ، يقال : شحنت السفينة ونحوها ، أي امتلأت .

وهذه الكلمة " مشاحن "يلاحظ أنها قد جاءت في الحديث على صيغة اسم الفاعل ،وعليه فيكون هذا الوعيد الوارد إنما يقع في حق فاعل المشاحنة ومحدثها ، لا في حق من وقعت عليه وتحمل جريرتها . 

أو بعبارة أخرى : المشاحن في الحديث هو المسيء وليس المساء إليه، وهو الظالم وليس المظلوم . 

وأقول لهؤلاء الذين يتصدرون للفتوى في المساجد ووسائل الإعلام ، ولايفتؤون يروجون معاني ليست في مقدور عامة الناس ولم يكلفهم الله تعالى بها ؛ ظنا منهم أنها تقودهم الى مزيد من الترقي والسمو ….

أقول لهم : مثل هذه المعاني التي تطرحونها أحيانا على الناس تحبطهم في الحقيقة وتيئسهم من رحمة الله تعالى أو هي على الأقل : توقعهم في شرك الوهن والمذلة ، حين تدفعهم خشيتهم من عدم مغفرة الله لهم في هذه الليلة مثلا - كما تروجون - إلى الذهاب إلى ظالميهم جاثين على ركبهم طالبين الصفح والعفو ، حتى لايحرموا من عفو الله وصفحه ليلة النصف .  

أيها السادة : يقول الشاطبي فيما يشبه القاعدة المؤصلة التي استقاها من عموم نصوص الشريعة وبالنظر التأملي في مقاصدها

   "قصد المكلف إلى المشقة باطل " 

ويعلل لذلك بأن الله تعالى لم يحمل عباده من التكاليف مالا يطيقون ، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، ونحن حين نعمد إلى تكليف أنفسنا بما لانطيق ؛ فهذا من تعمد المشقة ومن يفعل ذلك يكون عمله مردودا عليه ،غير مقبول مع الإثم . 

وهذا يعني أن المظلوم حين يذهب بنفسه إلى من ظلمه ،ليطلب منه العفو والصفح ،فإن هذا هو عين الاستذلال والإهانة و إهدار الكرامة ، وليس عفوا ولاصفحا ولاشيء من ذلك ، وإشاعة هذا السلوك في المجتمع على أنه دين وقربى ، تزيد الظالم تجاوزا وظلما حتى يفحش في ظلمه ويفتري . 

ومن مجربات التعاملات الحياتية باتت لدينا قناعة : أن أهل الفجر في الخصومات يظنون الحلم ضعفا والمسامحة هوانا وذلة ، وهذا يتنافى تماما مع قوله صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح رواه البخاري " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن كيفية نصرته ظالما قال " تمنعه من الظلم فذلك نصر له " 

 وفي وضوح تام يقول الله تعالى في آيات بينات من سورة الشورى " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولائك ماعليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولائك لهم عذاب أليم ، ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور " 

نعم حقا وصدقا "ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور "

ولكن هذه درجة التي تتحدث عنها الآية درجة اختيارية في حق أهل العزائم ممن يسهل عليهم المرابطة في هذه الدرجة الملائكية العليا من التسامي وهم راضون مستريحون ،ثم إنهم يملكون إلى جوار ذلك قوة نفسية تجعلهم لايبالون برد فعل الظالمين إزاء تصرفهم الأمثل هذا ، بعد أن استودعوه كرائم صحائفهم عند ربهم احتسابا وقربى ، دافعين بالتي هي أحسن حسما للشر وراحة للنفس وللقلب .

أو هي درجة اختيارية يحسن فعلها مع من يقدرون قيمة الصفح والعفو والدفع بالتي هي أحسن، حين يأتيهم من يسترضونهم وهم الآثمون في حقهم ، حينئذ يشرع الذهاب إليهم لمروءتهم وحسن تقديرهم لمعالي الأمور . 

وأزيد هذا المعنى تأكيدا فأقول :

لقد ضرب النبي صلى الله عليه المثل الأعلى من نفسه في ذلك ، فهو إمام المتقين المحتسبين ، الذين حسموا الشر بالخير والأذى بالصفح الجميل ، وسيرته العطرة حافلة بما لا يحصى من المواقف المثلى في ذلك " ولكنه صلى الله عليه وسلم في مواقف معينة آلمه الظلم وأوجع كبده الشريف صلى الله عليه وسلم ، فلم يطق مثلا النظر إلى وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه ، بعد أن جاءه مسلما طالبا منه أن يغرب عن وجهه الشريف صلى الله عليه عليه وسلم.

ومن الطبيعي هنا أن يقول قائل : ولكن هذا قتل ودماء….. 

أقول : الخوض في أعراض الشرفاء أمر على أكبادهم من القتل ،والكلمة الجارحة للكرامة والمشاعر حين تصوب شطر أهل الأدب والمروءات تقتلهم بالبطيء ؛ فتمنعهم النوم والطعام والشراب حتى تسلمهم إلى عضال الداء ، والظلم حين يأتي من الأقارب وأهل الرحم يكون أشد غضاضة وأمر على النفس من وقع الحسام المهند. كما عبر الشاعر العربي .

وختاما أقول : نعم نحن نندب إلى العفو والصفح ، ولكن لكل حال لبوسها، ولكل إنسان طاقته وربه بها عليم ، فلا تحملوا الناس مالايطيقون وحدثوهم بما هم عليه قادرون .

وقديما لخص حكيم العرب أبو الطيب المتنبي ماأود قوله -وربما خانني التعبير -في بيت من الشعر ، حين قال : 

 ووضع الندى في موضع السيف بالعلا

مضر كوضع السيف في موضع الندى.

والندي - الكرم والمودة .

يعني هناك مواقف لاتحتمل غير الشدة ، والتعامل بغيرها يكون من خوارم المروءات .

وبعد … فلنهنأ جميعا بعفو الله تعالى عنا في ليلة النصف المباركة ، وعلى من ظلمنا من غير جريرة منا أن يأتي هو إلينا طالبا عفونا ومسامحتنا، وسوف نلتمس حينها من الله العون على أنفسنافي مسامحته ومن قلوبنا ، حتى لايوصد باب العفو في وجهه. 

ولاتثريب علينا إن لم نصفح ، إن كان الكبد لايزال مقروحا ، والجرح ماانفك يثعب دما، وحينئذ لن نحرم نفحات ليلة النصف ولاغيرها ، منة من الله تعالى وتكرما، وهو سبحانه الأعلم بنا منا .

" فلا تهنوا وتدعو إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم "

صدق الله العظيم .ح