جدد فهمك :
لاتنكر على من يبكي فقيدا عزيزا لديه ، تعللا بحديث " الميت يعذب ببكاء الحي عليه "
وبصرف النظر عن التأويلات العديدة التي ساقها الشراح في فهم هذا الحديث كابن حجر العسقلاني وغيره ، فياليتنا لانحجر على الناس مشاعرهم الإنسانية الطبيعية حال حزنهم ، ومحاولتهم اجتياز أشق المواقف أثرا على نفوسهم بالتنفيس عنها بالبكاء ، الذي ثبت أهميته في التخفيف عن المحزونين والمكلومين ، كما ثبت علميا مالكتمه وكبته من آثار نفسية مدمرة .
فالمحظور فقط هو لطم الخدود وشق الجيوب والندب بكلام بشبه كلام الجاهلية، كما جاء في الحديث الشريف " ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية "
وقد ثبت في الصحاح مواقف عديدة بكى فيها النبي صلى الله عليه وسلم أحبابه ، منها بكاؤه صلى الله عليه وسلم حفيدته أمامة بنت زينب ابنته رضي الله عنها ، وحينما سئل عن بكائه هذا قال " هذه رحمة جعلها الله في قلب من يشاء من عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء "
كما بكى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الشهداء ، وبكى عمه حمزة رضي الله عنهم أجمعين .
حتى إنه صلى الله عليه وسلم حينما وجد شهداء أحد وحولهم أهلوهم يبكونهم ، ولا أحد يبكي عمه حمزة رضي الله عنه ، حزن في نفسه وقال متأسفا " أما حمزة فلا بواكي له " فطفق نساء الانصار يبكين حمزة تطييبا لخاطره صلى الله عليه وسلم ، وتجاوبا مع مشاعره الإنسانية المكلومة ، وتخفيفا للوعته وأنات قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم .
فمشاركة الإنسان حزنه كمشاركته فرحه بل أشد ، ولذا شرع العزاء ثلاثا لكونها فترة كافية لمساندة أهل الميت ، وإعانته على حزنه وتخفيف لوعة الفراق وألمها على قلبه .
ومن الناحية الحديثية : فهذه الرواية " الميت يعذب ببكاء الحي عليه " لما بلغت أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها، أنكرتها ، مع أنها من رواية عمر وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، ومع ذلك فقد ردتها قائلة : إنكم لتحدثوني عن غير كذابين ولامكذبين ، ولكن السمع يخطيء…
ثم قالت " أين أنتم من قول الله " ولاتزر وازرة وزر أخرى "
لترسي بذلك رضي الله عنها قاعدة مهمة في نقد المرويات ، ترتكز على نقد المعنى ، وإن بلغ النقلة والرواة الغاية في الصدق ، وذلك برد الرواية التي من الممكن أن تتعرض لخطأ السمع أو النقل ، إلى كتاب الله المحكم الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه .
وكان لهذا أثره في أن ينشط الأصوليون في سبيل إرساء مناهجهم النقدية الضابطة ، في النقد الداخلي للنص الآحادي أو نقد متن الحديث برده إلى الأقوى من نص قرآني أو سنة متواترة ، أو قاعدة من القواعد المحكمة ، أو مقصد من مقاصد الشريعة العليا المعروفة.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
" رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه "