لو سألنا عموم المتدينين في عالمنا الإسلامي ، ماهو غير المطبق من الشريعة الإسلامية في بلادنا ، وتودون لو طبق ؟
أكثر من ٩٠ في المائة منهم سيجيبون : (الحدود ) لأنه لاتطبيق لشرع الله دون قطع يد السارق ،ورجم الزاني ، وجلد شارب الخمر الخ
ولو قلت لهم إن شروط تطبيق الحد الأول ( السرقة ) تكاد تكون غائبة في ظروف المجاعات والشبهات التي تعيشها أكثر بلدان المسلمين ، و عقوبة شارب الخمر لم يوقت فيها النبي صلى الله عليه وسلم حدا معينا كما ورد من حديث سيدنا على رضي الله عنه " مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوقت في الخمر حدا " وفي رواية أبي هريرة " فمنا الضارب بثوبه ومنا الضارب بنعله ، ومنا الضارب بيده " يعني شارب الخمر عقوبته لم تكن محددة وإنما عقوبة تعزيرية ، يقدرها القاضي وقد تصل إلى الإعدام ،إذا شكل خطرا على أمن الناس .
أما رجم الزاني فهذه عقوبة لاتثبت إلا بأحد أمرين : الإقرار وهذا أمر لايحدث ، أو أربعة شهود يشهدون الجريمة كاملة ، وهذا أمر نادر الحدوث .
لو قلت ذلك لاتهمت في دينك وأمانتك بسبب الثقافة الدينية المغلوطة، التي تحرص على الترويج لهذا الجزء العقابي فقط من شريعتنا الإسلامية الإنسانية ، وكأنها شريعة قطع الرقاب والأيدي ليس إلا ..
أقول : هذا النوع من الجزاء العقابي الحدي في شريعتنا على أهميته في تحقيق الردع والزجر وأمن المجتمع ، إلا أنه لايمثل إلا جزءا ضئيلا داخل منظومة تشريعية متكاملة تعنى ببناء الإنسان وحفظ كرامته عليه في المقام الأول ، وكيف يكون إنسانا متحضرا وراقيا بمعنى الكلمة .
بل ومن عقم الفهم اختزال مفهوم الشريعة في جزء الجزء من نظامها العقابي الشامل ، مقارنة بالعقوبات التعزيرية الموكلة إلى الحاكم أو القانون ، فهذه أعم وأشمل من تلك العقوبات الحدية التي أثقلت بشروط التطبيق ، على حين تستغرق العقوبات التعزيرية كل الجرائم ، وبحيث لايفلت مجرم من عقاب إن طبقت على وجهها الصحيح .
وهنا يثور سؤال ، وماهي إذن الشريعة في مفهومها الأشمل ، والتي يلزمنا كأفراد تطبيقها ، وسنسأل أمام الله فردا فردا إن فرطنا في جزء الجزء منها، حتى وإن تغاضى عنها القانون ، أو تعمدنا البعد عن أعينه وسلطته كي لانعاقب ؟
الجواب : الشريعة تشمل كل ماجاء به الإسلام من قيم ثابتة خالدة لاتختلف ولاتتأثر بزمان ولامكان ولاأشخاص ولاأحوال، أبرزها :
تقوى الله في السر والعلن ، وأداء الفرائض ، والتزام الصدق والأمانة ،والتراحم مع الخلق وتفريج الكربات وبذل المعروف وإغاثة المنكوبين ورعاية الأيتام واللقطاء ، وإتقان العمل ، وتحري الرزق الحلال ، وتقوى الله فيمن نعول ،وإعطاء كل ذي حق حقه ، وتجنب الفواحش والآثام ماظهر منها ومابطن ، وحفظ الكليات الخمس على النفس وعلى الآخرين ، والحفاظ على جميع مباديء الإسلام وقيمه الإلزامية من حسن الخلق ورعاية الحقوق والحرمات والإحسان إلى الخلق ، مما فصل فيه القرآن الكريم والسنة الصحيحة.
والآن : على كل واحد منا أن ينظر في حاله وهو الأدرى بنفسه ، بنسبة كم يطبق شرع الله في حياته ؟
العجيب أنه حين يتفق القانون في بلادنا مع الشريعة في تنفيذ عقوبة كالقصاص مثلا ، ترى الجماهير الغفيرة من الناس تقف غالبا في صف الجاني وليس الضحية أو المجني عليه أو عليها .
والأعجب أن ترى عوام الناس ينقلبون إلى محللين نفسيين ، فيصبح الجاني ضحية والمجني عليه أو عليها هو المجرم المسئول عن الجريمة ، والأسرة المكلومة في فقيدها أو فقيدتها تستحق ماجرى لها ، لأنها هي التي أساءت التربية وأزعجت المجتمع بهذه الجريمة ، وتقديم هذا النموذج عديم الرباية والدين إليه.
أنبه إلى أن فلسفة التفسير النفسي للجريمة هذه فلسفة مناهضة تماما لمرتكزات الفلسفة العقابية في الإسلام ، لأنه لايوجد إنسان يرتكب جريمة كالقتل مثلا وهو في حالة استواء نفسي أو وعي بما يفعله ، وغالبا مايكون تحت تأثيرات نفسية بالغة الصعوبة ، وهذا معناه هدم النظام العقابي في الإسلام بأكمله ، وهو كذلك مدخل كبير لاتهام الإسلام بالوحشية في نظامه العقابي .
وقد تبنى هذا الموقف عدد كبير من المستشرقين المناهضين لهذا الدين ، وها نحن نسير في ركابهم ونحن غافلون .