استوقفني وأنا أ قرأ في مجموع الإمام النووي رحمه الله ( ت٦٧٦) تعقبه لحديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين ولم يقرأ فيهما إلا بفاتحة الكتاب" حيث قال "رواه البخاري بإسناد ضعيف "
هكذا وبكل وضوح (المجموع ٣/ ٣٨٩ ط دار الفكر)
فهل يعني ذلك أن الإمام النووي رحمه الله لم يكن يقدر الإمام البخاري ، أو أنه لم يكن يدرك قيمة مابذله رحمه الله من جهد في خدمة السنة المشرفة ؟ بالطبع كلا ….
ولكنها أمانة الكلمة ، والوعي الكبير بقيمة النقد في الحياة العلمية .
-ومن بعده يتوقف الفقيه ابن رجب الحنبلي ( ت ٧٩٥) في قبول حديث " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب … " ويقول : وهذا من غرائب الصحيح .
-كما كان للإمام والمحدث الكبير الدارقطني (ت ٣٨٥) في كتابه" العلل " تتبعات وانتقادات لأحاديث رواها البخاري ، أكثرها لعلل رآها في الأسانيد ، لكنها لم تخل من تتبعات نقدية لعلل في بعض المتون كذلك ، أو في نص الحديث نفسه .
نعم ، لقد فقه هؤلاء الأئمة العظماء أن التقدير والإجلال شيء، والمنهج العلمي وتحمل أمانة الكلمة شيء آخر !!
ثم إن هذا المناخ العلمي الجاد ، الذي مارس فيه هؤلاء العلماء حقهم في النقد وبحرية تامة ، كان له أثره في تقبل هذا النقد العلمي وبتفهم كبير على مستوى الخاصة والعامة ، فلم نسمع عن أحد تطاول على هذه القمم العلمية العالية ، أو اتهموهم أو أحدهم بالبدعة والضلالة ومعاداة السنة ، ونحوها من التهم الجاهزة المعلبة ، التي يصدرها ضعفاء العقول والنهى ، ممن ابتلينا بهم في عصرنا .
ولكم أن تقارنوا بين هذا الموقف النقدي المنهجي الواضح والصريح من قبل الإمام النووي وغيره ممن ذكرنا لبعض روايات البخاري ، وبين ما حدث مع الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في عصرنا هذا !!
فما إن خرج إلى النور كتابه الماتع الفريد في بابه " السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث " حتى قامت الدنيا ولم تقعد ، لأن الشيخ كان قد تجرأ وتناول بعض أحاديث صحيح البخاري بالنقد ، ومنه حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم .
هذا الحديث الذي يصر السذج من محدودي النظر والفهم على إشاعته بين الناس ، وكأن الاعتداد به شرط من شروط دخول الجنة والعتق من النيران .
فكان أن ألفت ضد الشيخ عدة كتب ،جلها تصفه بالضلالة والابتداع ومعاداة السنة ، وتتوعده بسوء المصير في الآخرة ، ولكنها كلها ذهبت أدراج الرياح ، وبقي كتاب الشيخ خالدا ، شاهدا على صبره وصدقه في الدفاع عن السنة المشرفة ،بتجريدها مما ظنه ليس منها ، فما أريد به وجه الله هو الذي يبقى بلا ريب .
ولكن ماذا بعد الشيخ الغزالي رحمه الله ؟
أقول للأسف : لقد علا صوت محدودي الفهم والنظر من حفاظ الأسانيد والعنعنات ، وتوارى أهل الفقه والاختصاص في كهوف الصمت ،مؤثرين السلامة .
ولكم انتظرت صدور دراسة أو دراسات بعد كتاب الشيخ الغزالي رحمه الله ، تنتهج المنهج نفسه الذي أرساه في كتابه المذكور ، لأن الشيخ أراد بكتابه هذا لفت الانتباه إلى المعالم النقدية النفيسة ، التي أرساها سلفا الأصوليون والفقهاء في نقد متن المرويات ، ليبين من خلالها كيف أن عملية نقد متن المرويات لاتقل أهمية عن عملية نقد الأسانيد ، وأنه يجب حال دراسة المرويات الاعتداد بمنهجيات أهل الفقه وأصوله ، التي تعتمد النقد الداخلي للمرويات ومحاكمتها ، وفق وجهة نظر تختلف كثيرا عن وجهة النظر النقدية الحديثية ، وأن الاكتفاء بمنهج أهل النظر الحديثي ،لايكفي للحكم على الرواية صحة أو ضعفا .
وهذا في الحقيقة هو عين مالفت إليه المحدثون المؤسسون لهذا العلم أنفسهم ، حين قعدوا قاعدة مفادها " لايلزم من صحة السند صحة المتن والعكس " لينبهوا بذلك إلى ضرورة النقد الداخلي للمرويات .
ولم يكتفوا بهذا التنبيه أو التقعيد فقط ، ولكن كانت لهم وقفات نقدية مؤثرة ، وفرائد نفيسة في هذا تضمنتها مصنفاتهم، إضافة إلى ماأسس له الأصوليون والفقهاء .
وهكذا نحن ، نعشق الارتداد إلى الخلف ، والمبررات جاهزة ، والسيوف البتارة على أهبة الاستعداد لقطع رقبة كل من يحاول أن يغرد خارج السرب بتهمة " معاداة السنة " .
ويحسن هنا أن أختم كلامي بهذين القولين المأثورين عن فقيهين من التابعين ، للتأكيد على أن ماتضمنه منشوري هذا ليس بدعا ، وإنما هو منهج أهل التحقيق والنظر الصحيح من سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.
-يقول سفيان الثوري رحمه الله " لو كان الأمر بأيدينا لضربنا بالجريد كل محدث لايشتغل بالفقه ، وكل فقيه لايشتغل بالحديث "
-وعن عبد الله بن وهب قال " كل صاحب حديث ليس له إمام في الفقه فهو ضال ، لقيت ثلاثمائة وستين عالما ، ولولا مالك والليث بن سعد لهلكت ، فقيل له : كيف ذلك ؟ قال : أكثرت من الحديث فحيرني ، كنت أظن أن كل ماجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يعمل به ، فكنت أعرض ذلك على مالك والليث ، فيقولان : خذ هذا ودع هذا "
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيرا يفقه في الدين "